}

رسائل الغزّيّين: ضحايا المجزرة "صامدون هنا"

عمر شبانة عمر شبانة 22 أبريل 2024
هنا/الآن رسائل الغزّيّين: ضحايا المجزرة "صامدون هنا"
"أوقفوا الإبادة الجماعية"... من مظاهرة في إسبانيا(20/4/2024/Getty)

[هل كان يتوقّع اليهودي الأميركي نورمان فنكلشتاين في كتابه "غزّة: التحقيق في استشهادها"Gaza: An Inquest into its Martyrdom ، ما يجري اليوم فيها ولها وعليها، وهو الذي رأى في كتابه هذا أنه "على الرغم من أن إسرائيل بررت حصارها واعتداءاتها العنيفة باسم الدفاع عن النفس، إلا أن هذه الأعمال كانت في الواقع تمارين ساخرة للقوة الوحشية ضد سكان مدنيين عزل أساسًا"].


لا أحد ينتظر من الغزيّين نصوصًا أدبية، أو إبداعية، بل إنسانية، فليس لديهم ــ الآن ــ ترف التأمل في اللغة، وباللغة، كلّ همّهم هو وصف مأساتهم، والتعبير عنها ببساطتهم وعفويّتهم. ففي الحروب والكوارث يتراجع مستوى الإبداع، لمصلحة "القول/ الخطاب". وما أكتبه هنا ليس سوى متابعة لما يكتبه البسطاء، من يكتبون مشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم العابرة في وسائل التواصل، وخصوصًا فيسبوك... مع ملاحظة غياب الموقف الواضح لدى بعضهم تجاه ما جرى ويجري، إلّا أن الجميع يتوحّد في "مواجهة" العدوان والمجزرة، وهذا أضعف الإيمان. كما أنّ ما أتناوله هنا، هو "الهمّ"، والحالة التي يعبّر عنها المهمومون، وليست الأسماء التي تكتب وتقول.
أبدأ بما كتب أحد الغزيّين (علي أبو رزق)، معلّقًا على موقف للصحافي الصهيوني ألموغ بوكير حول صورة الغزيّين المتواجدين على بحر غزة، إذ ينفث بوكير مشاعر الحسد والحقد تجاه الغزيّين الذين يجدون فسحة للهروب من جحيم الصيف وجحيم المجزرة فيكتب: "النصر المطلق... هذه الصورة تجعل جسدي يؤلمني، بينما تم إعلان شاطئ زيكيم منطقة عسكرية مغلقة، ولا يمكننا نحن السكّان الاقتراب منه من دون مرافقة عسكرية، فعلى الجانب الآخر من السياج، يقضي الغزيّون وقتهم على الشاطئ ويستحمّون في البحر كما لو لم تكن هناك حرب"... فهل ثمّة أشدّ سريالية من أن تحسد الضحيّة على تنفّسها وسط الجحيم؟!
كوابيس ولا "في الأفلام"، مشاهد لا يشبهها ما يُروى عن يوم "القيامة"، بل هي "مشاهد قياميّة" بكلّ المعاني، فعن أي قيامة نتحدّث؟! نقول لفيروز "المأساة اتّسعت"، فتغنّي لنا ما كتب هارون هاشم رشيد "سنرجع يومًا". نصرخ في أحمد سعيد المذيع الذي قالوا إنه خاطب البحر والأسماك "تجوّع يا سمك"، فيجيب من قبره "هذه دعاية صهيونيّة لكي يبرّروا إبادتنا". وهكذا تمضي الكارثة لتحصد عشرات الآلاف، في جريمة مشهودة ولا تخفى علاماتها على من يسمع ويرى ويشعر ويتألّم. وننادي عبد الرحيم محمود من "الشجرة" إلى أين؟ فيُنشد "سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى/ فإمّا حياةٌ تسرّ الصديقَ/ وإمّا مماتٌ يغيظ العِدا".
نسمع غزّة/ فلسطين ونراها ونقرأ صراخَها، نتفرّج عليها أمام الشاشات، نتابع عبر التلفزة والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، نسمع صرخات الأمّهات والجدّات والأحفاد، ولا نملك ما نقدّم سوى الدعاء وما يسمح به "المتشائل". لا حول لنا، نحن المحصورين بين عدوّين، فارسيّ من الشرق، وصهيونيّ ــ إمبريالي من الغرب. ولكلّ منهما أجندات للهيمنة على المنطقة، الفارسيّ يحلم باستعادة إمبراطوريّته التليدة، والصهيونيّ يسعى لاستعادة مملكة سليمان وداود العتيدة التي لم تعمّر سوى سبعين سنة. وهذا صراع وجود بالطبع.




أقرأ اليومَ صراخ الغزيّين، أقرأ ما جمعته الصديقة رنا بشارة من بكائهم وعويلهم، في جهد يُحسب لها، في صفحتها على فيسبوك، وقد جمعته من فيسبوك. كتابات هي وثيقة للتاريخ، هي صرخات من أهل غزّة وضحاياها. وتقول بشارة إنها جمعتها "في مُحاولة لإدراك حَقيقة مواقِف ومشاعر مَن يَكتوي بِنار هذا العُدوان الهمجي مُباشرةً داخِل غزّة بِشكلٍ أعمَق بَعيدًا عن أي شعبويّات". ونستمع لعشرات الأصوات التي لا تجد سوى الكتابة والصراخ. كتابات تُدمي القلب وتعصف بعواطفنا بقوّة. فقد تخطّت المأساة حدود الكارثة، وباتت تنذر بأعظم الويلات، ونحن لا حول لنا ولا قوّة سوى تعاطفنا الخانع.
هنا سأعرض بعض ما يقول الأهل في غزّة، من دون أن نتحدث عن المجازر وعشرات الآلاف من الضحايا، شهداء وجرحى ومشرّدين ومُعاقين نفسيًّا وجسديًّا، تكفي الأشياء اليوميّة البسيطة. الأمور ذات الطبيعة الإنسانية، بعيدًا أو قريبًا من الحروب و"انتصاراتها"، أو "هزائمها"...

الذاكرة والأشياء الحميمة

نشطاء مؤيدون للفلسطينيين يحملون لافتات ويرددون شعارات أثناء مسيرتهم في كرايستشيرش، نيوزيلندا (20/ 4/ 2024/ Getty)


أحد النصوص يتعلق بحفظ الذاكرة، وكيف؟ يقول صاحب النصّ: "كُل ما نَحتاجُه ذاكِرة، ذاكِرة كبيرة وضَخمة تَتّسع لِكُل هذه الحِكايات التي افتقدناها هي وأصحابِها، تَتّسع لِمعرفتهم ومعرفة أحلامهم... هذا أكثَر ما يَجِب أن نُناضِل لِأجله، الحُصول على مُتّسّع من الذّاكرة التي تَحفَظ وصاياهم. صديقي ياسِر، ياسِر رأفَت بريخ، الذي افتقده قَلبي، كانَت وصيّته أنّه "مُحِب للحياة". كَم وصيّة شبيهة قتلها العبث والعُدوان، كَم حلمًا اغتالَته آلة الحِقد، وكَم قِصّة حُب لم تَكتَمِل، إسرائيل... قتلَت كُل شيء، كُل شيء... لكّنّها يَجِب ألّا تَصِل إلى ذاكرتنا. يَجِب أن نَحميها، نَحميها جيدًا من كُل شيء".
بينما يفتقد حمزة روح مكتبته "الشهيدة"، مكتبة أصبحت شبحًا، فيقول "ما زال شبح مكتبتي المفقودة يُطارِدُني، عشرات الآلاف من الكتب التي كلّفتني عشرات الآلاف من الدولارات لا تَعني لي شيئًا مُقابل ما تُمِدُّني به هذه الكتب من العلم، جمعٌ غفير من العلماء كنت أسهر معهم أجمل الأوقات، كل كتاب في هذه المكتبة أخذ مني نصيبًا عظيمًا من حواسّي الخمس، أنظر إليها فأتيه فرحًا بأني أملك أسرارها، أسمعها فأمتلئ علمًا، ألمس ورقها وأغلفتها فأنتشي بسحرها، أشمّ عطر أوراقها الخاص فيهرب بي من هذه الدنيا المتعبة، أتذوق ما كَتب مؤلفوها فيها فلا أجد أشهى منه، أكتب هذه الكلمات والدمع يغرقني، هل تُرجِع لي الأيام عهدًا جميلًا شبيهًا بما كان؟ هل تَرجع لي مكتبتي؟ هل يَرجع لي فردوسي المفقود؟". ويروي "أحدهم"، بقدر هائل من السريالية والفانتازيا ربّما، كيف باتت كتبه ــ في غيابه ــ غذاءً وحيدًا للنار التي يُشعلها الأهل للطبخ، أو للتدفئة. فلا حطب ولا فحم، فحتّى الأغصان والأعشاب اليابسة، القابلة للاشتعال، أحرقتها نيران الصهاينة.




ويصف (محمود) مشاعر الذهول أمام هول ما يجري، كأنّما يستعيد آية في القرآن تصف يوم الزلزلة "يوم ترونها تذهل كلّ مُرضعة عمّا أرضعت. وترى الناس سكارى وما هم بسُكارى"، فيقول بلهجة محكية بسيطة "كُل مَرّة ــ أي كلّ مجزرة ــ كُنت شاهِدًا على بُكاء كثير من النّاس بعد كُل عُدوان. هذه المرّة الناس ما بتبكي. بيوقفوا قُدّام رُكام البيوت في صَمت رَهيب، وبعدها بِروحوا أي مكان. فعل البُكاء فعل شاق جِدًّا، لَكِن يبدو أنّنا في حال أشقّ منه أدّى إلى تحجُر الماء في العيون".

أصوات تنزف دمًا ومقاومة
تستمرّ الكارثة، ويستمرّ الصمود الإجباريّ الذي لا سبيل لغزّة، ولفلسطين كلّها، سوى متابعته بإصرار! الكلّ هنا يقوم بما يستطيع القيام به من أعمال الصمود، ومن المقاومة. ومن التحمّل. فلا أحد يحبّ الموت، أو الهزيمة. وثمّة حدود للصبر والصمود، حتى لو بلغت التضحيات أقصى مداها، ما يجعل أحد الناجين منهم، يصرخ في ما يقارب اليأس، مستعيرًا عبارة درويش الشهيرة: "إن لم يُكتب لنا أن نستمرّ في العيش، فاحفظوا فعلنا وأسماءنا وصُورنا، واكتبوا على قبورنا بخطٍ بارز: هُنا يرقد من أحبّوا الحياةَ وما استطاعوا إليها سبيلًا".
وكما نستوعب ونتفهّم مفهوم المقاومة والتضحية، يجب أن نستوعب هذه الصرخة، وأن نتفهّم ما يقول المُصوّر الفلسطيني مٌعتَز عزايزة: "انتهت مرحلة المُخاطرة لنقل الصّورة، وبدأت مرحلة مُحاولة النجاة. لقد نقلت بِما فيه الكفاية من الصور. أُشهد اللّه أن عملي كان لوجهه الكريم، وخدمةً لوطني الحَبيب، ونعيش الآن تحت بداية حِصار داخلي. لا يُمكننا الخُروج، سواء في اتّجاه الشّمال أو الجنوب، والدّبابات تُحاصر المنطقة الوُسطى من الشّمال والجنوب. ووضعنا أصبح مأساويًّا لأبعد مما تتخيّل. تذكّروا أنّنا لسنا عبارة عن مُحتوى للمُشاركة. نَحنُ شعب يُقتَل وقضيّة نُحاول ألّا تُمحى عن الوجود. يا وحدنا". وهذه الصرخة الأخيرة استعارة درويشيّة ترجّع صدى حصار بيروت وتدميرها، وارتكاب المجازر فيها في عام 1982، وما تركه درويش في الثقافة الفلسطينيّة والعربيّة كلّها.
بهذا التعدّد في الأصوات والمشاعر، وردّات الأفعال المتفاوتة، وغيرها كثير، عدا ما عرضنا من أصوات، وهي قليلة جدًّا، لكنّها معبّرة، نكتشف مجتمعًا لا يزال في عافيته، رغم اختلاف القوى والفصائل وخلافاتها. فلنسمح للأصوات جميعًا بالتعبير عن نفسها، وكما قال أحدهم يومًا "دع كلّ زهرة تتفتح"، ولا تقمع صوتًا، كي لا تتعرّض أنت للقمع، أو تصبح من القطيع، بلا أيّ صوت يميّزك عن سواك. فأهل غزّة وفلسطين ضحايا، ومن حق الضحيّة التعبير، وبحسب عبارة شديدة الوضوح والصدقيّة "لا تلوموا الضحيّة".
هذا كلّه، ونحن حيال أعداء بلا أي إنسانيّة، أو أخلاق، أو مبادئ، وليس عدوًّا همجيًّا واحدًا، ما يفرض علينا "التسامح" تجاه "نحن" في مواجهة "الآخر/ الآخرين". ونحن أيضًا نخوض "حرب وجود"، حرب "إمّا أن تكون أو لا تكون"، بحسب شكسبير، وبحسب سخريات محمود درويش اللاذعة وجوديًّا "إمّا أن نكون أو نكون". حرب وجود ليس فيها ترف الاقتتال على "جنس الملائكة!".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.