}

فلسطين في السينما: ذاكرة مُفاجآت

أشرف الحساني 9 يناير 2024
آراء فلسطين في السينما: ذاكرة مُفاجآت
(Getty)


حين يُفكّر المرء في جُرح فلسطين وتُسافر به الذاكرة إلى فوانيسها القصيّة بفعل حرارة اليومي الإسرائيلي، سيجد أنّ السينما كانت ولا تزال أبرز الفنون البصريّة قُدرة على اختراق جسد الاحتلال وتعريته من الداخل. إذْ نجد الكثير من الأفلام السينمائية التي حوّلت الذاكرة الفلسطينية إلى ذاكرة باقية في التاريخ والوجدان. بحكم أنّ الصورة تتميّز بهذا النّمط الذي يُحوّل أيّ موضوع تتعامل معه إلى أيقونة بصريّة. وهذا في حدّ ذاته، يُعتبر مكسبًا بالنسبة للسينما وصناعتها، فهي قادرة على التأثير بصُوَرها وخطابها. بل إنّها تمتلك من الوعي ما يجعلها قادرة على الصمود والمقاومة ومواجهة مختلف تمظهرات العنف وأشكال الإبادة الإسرائيلية. السينما لها سحرٌ خاصّ ينقلها من الواقع صوب المُتخيّل، وذلك بما يجعلها تمتلك وعيًا دقيقًا بمفهوم الواقع وحساسيته. إنّ الفن السابع حين يتعامل مع الواقع، فهو لا ينقله بتفاصيله أو يُحاول التّماهي معه بشكل حكائي، بقدر ما يحضر بوصفه مجرّد "صُوَر". هذا التشذير البصريّ تفرضه اللقطة وتملي قوانينه ميكانيزمات المَشهد. وبالتالي، فالسينما حين تتعامل مع الواقع، فهي تقبض عليه على أساس أنّه صورة وليس حكاية.

هذا عاملٌ مهمّ لفهم الصورة السينمائية وكيف تُساهم بشكل تقني في تشذير الحكايات وتحويلها إلى صُوَر فنية مؤثّرة. ففي كلّ صورة تُبلور السينما عشرات الحقائق لدرجةٍ تبدو فيها هندسة الصورة أشبه ببلورٍ مُتعدّد الأضلع.

لعبت السينما دورًا كبيرًا في تحرير فلسطين في الجسد والمخيّلة، خاصّة وأنّها تعاملت في قراءة فلسطين في سياقاتها ودلالتها وفق تخييل سينمائي يُراعي الشرط التاريخي والمطلب الواقعي وكلّ ما يتّصل بها من أبعادٍ سياسية ودبلوماسية ذات الأثر في القضية الفلسطينية. ونظرًا إلى هذا السحر الذي تُمارسه السينما على المتلقّي في العالم ككلّ، بحكم شعبيتها وإرادتها القويّة في تفكيك البنى الاستبدادية والأنساق الفكريّة التي يتأسس عليها العنف الإسرائيلي.

لعبت السينما العربيّة دورًا هامًّا على مُستوى الحفاظ على القضية الفلسطينية في وجدان المجتمع العربي، بحيث ساهمت الأفلام المُنجزة منذ نهاية سبعينيات القرن الـ 20 في التعريف بالقضية وإبراز ملامحها بطريقة أصبحت فيها السينما كأنّها الأداة الوحيدة القادرة على متابعة الشأن الفلسطيني في علاقته بالاحتلال الإسرائيلي الغاشم. لقد طوّرت السينما اللبنانيّة البديلة طرقًا مختلفة في التعاطي مع فلسطين داخل السينما. بحيث أصبح الاهتمام بها يتّخذ شكل مقاومة تتوسّل الصورة للنقد وتكثيف القول. بهذا المعنى تحوّلت الأفلام من كونها عبارة عن أعمال فنية هاجسها الخيال، صوب سينما تنتقد وتبوح وتُعرّي كل فظائع الاحتلال وقهره. إنّ فيلم "كفر قاسم"(1975) للمخرج اللبناني برهان علوية يُعطي الانطباع منذ مشاهده الأولى عن مفهوم السينما البديلة وما الذي تعني لها فلسطين. لقد قام المخرج بتعرية المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في قرية كفر قاسم عام 1956 لدرجةٍ شجّع الفيلم فكرة العودة إلى الماضي من أجل إدانة واقع الاحتلال ورصد خيباته وويلاته. واعتبر الفيلم في ذلك الإبان بمثابة فتحٍ بصريّ كان قويًا على مُستوى التأثير في يوميّات الحرب. غير أنّ المُلاحظ في سيرة السينما المستقلّة أنّ فلسطين لا تحضر دائمًا كوجود بصريّ، بل هي عبارة عن حكاية يُنظر إليها داخل بيئةٍ اجتماعية يعيش فيها اللبنانيون والفلسطينيون، أيْ أنّها كانت تحرص في صُوَرها على الاشتباك مع اللحظة الفلسطينية لكنْ في علاقتها بالجنوب اللبناني. ورغم الأهمية البصريّة التي جاء بها الفيلم، إلاّ أنّه لم يحظ باهتمام كبير من لدن النقاد مقارنة بأفلامٍ أخرى له. لقد أصبح الفيلم يُعتبر مرجعًا سينمائيًا كبيرًا بخصوص أفلامٍ عربيّة ساهمت في تخييل فلسطين والتعامل مع يومياتها على أساس أنّها تُعطي للمرء دروسًا في التضحية والمقاومة والألم.

فيلم "كفر قاسم" (1975) للمخرج اللبناني برهان علوية يُعطي الانطباع منذ مشاهده الأولى عن مفهوم السينما البديلة وما الذي تعني لها فلسطين


على مُستوى الكمّ، تُعتبر الكتابة الشعرية أكثر الأجناس الأدبيّة التي استطاعت الاعتناء بالذاكرة الفلسطينية ورصد صُوَرها ويومياتها في أمور تتعلّق بالسياسة والاجتماع. فمنذ جيل الستينيات داخل المشهد الشعري المعاصر، تبرز فلسطين باعتبارها وجودًا قائم الذات داخل نظام القصيدة. ذلك أنّ العديد من الشعراء كتبوا الكثير عن فلسطين وأصبحت تُوجّه نظام قصائدهم وتدفعهم إلى الكتابة من داخل فلسطين حتّى لوا كانوا بعيدًا عنها. وقد ساهم المد اليساري الطافح في ثنايا جسد الاجتماع العربي، بتأجيج فكرة فلسطين داخل الساحة الثقافيّة وتنبيه الشعراء إلى ضرورة الانطلاق من الواقع الفلسطيني للبحث عن ملامح شعرية جديدة. والحقّ أنّ الكثير من قصائد هذه المرحلة، كانت تمزج بين الواقع العربي وما تعيشه فلسطين من قتلٍ وتنكيل. لهذا يُصنّف نقاد الأدب بأنّ البُعد السياسي هو الذي كان يطبع هذه المرحلة، مقارنة بالهاجس الجمالي الذي يُعتبر شرطًا أساسيًا في بناء شرعية النصّ الشعريّ.

إنّ الوعي بالقضيّة الفلسطينية، لم يتحقّق بشكل قويّ داخل هذه الفنون. فقد استطاعت التعبير بطلاقة عن جوهر القضية ومسايرة أحداثها ووقائعها. لهذا علّمت فلسطين جملة من المخرجين العرب معنى أنْ تكون مناضلًا بالكاميرا ودفعتهم إلى البحث في ذواتهم المكلومة عن ذخيرة بصريّة تُسعفهم على اجتراح صورة سينمائية تبقى في الذاكرة الجمعية. إنّ حضور فلسطين في السينما العربيّة، لا يُمكن رصده إلاّ من خلال نموذجين: الأول، حين تُصبح فلسطين تتخّذ من الفيلم السينمائي موضوعًا لها، وذلك من خلال حكاية تدور في فلسطين، بحيث تكون هذه الأخيرة بمثابة وجود أو علامة عن ذاكرة لم يندمل جرحها بعد. بيد أنّ هذا النموذج قليلٌ بالعالم العربي ولا توجد أفلام سينمائية حسب علمي أنتجت خارج فلسطين وجعلت منها موضوعًا للفيلم. أمّا النموذج الثاني، فيبدو حاضرًا على الدوام وبشكل أكبر، وهو النموذج الذي تعامل مع فلسطين كصورة داخل الفيلم العربي. إذْ تحضر بعض المدن مثل القدس وغزّة وغيرهما كصُوَر سينمائية تؤكّد تُدعّم فكرة أو تضعها في سياقٍ تاريخيّ ما أو تعبير نقديّ يُحاول مركزة فلسطين داخل المشهد السينمائي العربي. بغضّ النّظر عن الكيفية التي تمثّل بها المخرج العربي فلسطين، يبقى مفهوم التحرّر أحد أبرز المسالك البصريّة التي طبعت سيرة هذه الأفلام في مُخيلة الناس. بعدما استوعب المخرجون أهمية السينما في تحرير المخيّلة من الرقابة ونقد الواقع الذي تتستّر عليه إسرائيل. إنّها بطريقةٍ ما شكل من أشكال المقاومة التي تُصبح بها الصورة تُدين فداحة الاحتلال.

ساير النقد السينمائي العربي الأفلام الفلسطينية، لكنّه لم يستطع أنْ يُبلور حكايتها وذاكرتها وتاريخها، بطريقة تجعله يُبلور فكرًا تحليليًا قادرًا على ابتداع مفاهيم واجتراح أفق فكريّ يتعامل مع السينما في كونها "وثيقة" تاريخية تُظهر بقوّة الوحشية الإسرائيلية وتكشف ديمقراطيتها المُزيّفة التي تتشدّق بها أمام العالم اليوم. إنّ السينما الفلسطينية اليوم، سواء الحاضرة في يوميّات الفيلم العربي أو المُنتجة داخل الأراضي الفلسطينية، تُعتبر أهم السينمات داخ الوطن العربي، من ناحية الموضوع والأسلوب والشكل، وهو ما جعل أفلامها تحظى بعروض عالمية وتنتزع أهم الجوائز السينمائية. بل إنّها باتت تطرح الكثير من القضايا والإشكالات التي تتجاوز البيئة الفلسطينية وواقعها، صوب عوالم أخرى من المجتمع العربي ككلّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.