}

كأن الخوف سوريّ المنشأ!

مها حسن 19 سبتمبر 2023
آراء كأن الخوف سوريّ المنشأ!
(يوسف عبدلكي)


ما حدث في فرنسا

بعد مرور أكثر من أربع وعشرين ساعة على ما حصل، تمكنت من فهم السبب الذي فاجأني حضوره بقوة في داخلي، بعد غياب قارب العشرين عامًا عن سورية.

قبل أربع وعشرين ساعة تقريبًا، كنت بطلة الحي وتحولتُ بتصرف مني لم يستغرق دقيقتين، إلى حالة مشهدية، جعلت نساء الحي على الأخص، يأتين لإعلان تضامنهن معي، ثم أكتشف أنهن جئن، لأنهن شعرن بأهمية ما فعلته وما يمثل لهن.

حصل الأمر ببساطة، حين سمعت أصوات دقّات عنيفة متلاحقة على باب الصالة الزجاجي الذي يطل على الشارع، حيث أسكن في الطابق الأرضي.

هرعت بخوف لأزيح الستارة وأرى من يقف أمام الباب ويطرق بعنف، فوجدت أمامي شابة عشرينية، كانت قد مرت قبل يومين، وصادفتني أمام علبة الرسائل، فتوقفت وطلبت مني بعض النقود، مخترعة قصة لا تنطلي عليّ، لتبرر حاجتها الطارئة للمال: كانت في زيارة لجدتها في المشفى، وهي قادمة من مدينة أخرى، ولم تتمكن من سحب المال من بطاقتها المصرفية.... إلخ. بلطف شديد اعتذرت منها بأنني لا أحمل مبالغ نقدية معي. انصرفت الشابة بأدب، ومرّ الأمر بسلام.

بعد دقائق، جاءت جارتي المقيمة قبالتي، وقد رأتني أتحدث مع الشابة، ونبّهتني أنها قبل أكثر من شهر، أدخلت الشابة ذاتها إلى بيتها لأنها كانت جائعة وتحتاج فقط لأن تأكل، فقامت بسرقة بطاقة جارتي المصرفية، مما جعلها تذهب إلى الشرطة وتبلّغ عن الفتاة.

حين رأيتها أمامي مجددًا، وكأن حكاية جارتي والبلاغ لدى الشرطة، مع أصوات الطرق العنيف على الباب، اجتمعا ليشكلا لي حالة غير مفهومة من الذعر والغضب، فأشرت للفتاة من خلف الباب الزجاجي لتنصرف وكان الغضب واضحًا على وجهي، فردت عليّ بحركات تقول فيها أنني مجنونة. ذهبت ثم عادت بعد دقائق مصحوبة بفتاتين من عمرها، وبدا الأمر كأنه استعراض قوة، وأنا لا أزال تحت تأثير حالتي الانفعالية، ولم أتمكن من السيطرة على مشاعري "بين الخوف والغضب"، فاتصلت بالشرطة.

لولا صوتي المرتجف والذعر الذي شعر به الشرطي الذي ردّ على الهاتف، ربما ما جاء أحد، لكن طريقتي في الكلام، جعلته يطلب مني الهدوء وأنه سيرسل لي زملاءه على الفور.

ربما لم تكن الشابة وصديقاتها قد تحركن بعيدًا، لكنني لم أرهن، حين وصلت سيارة الشرطة أمام بيتي، وظللنا واقفين أمام الباب، في حاجة مني لإعلان وجود رجال الشرطة، رغم أن السيارة المتوقفة أمام الباب، تجلب النظر من بعيد.

هدأت قليلًا، ثم رحت أثرثر لعناصر الشرطة الثلاثة الذين جاؤوا لفهم القصة، وشرحت لهم عن الأدب والرواية وأنني كاتبة معروفة، وتحوّل الجو إلى حديث لطيف طمأنني قليلًا، وأصر رئيس المجموعة على أنني أستطيع الاتصال بالمركز في أية لحظة، إذا شعرت بالخطر، وقال إنهم سيبحثون عن الفتاة ويقومون بالإجراءات المطلوبة في هذه الحالات.

لم أهتم كثيرًا بما قد يحدث، كل اهتمامي كان أنني لا أريد أن أرى هذه الصبية في حارتي، أو أن تعود مجددًا لطرق بابي.

بعد انصراف الشرطة، بدأت جاراتي بالتسلل إليّ واحدة تلو الأخرى، مندهشات من تصرفي، وراحت كل واحدة تروي تعرضها لقصة مماثلة من نفس الصبية، دون أن تفكر إحداهن بالاتصال بالشرطة، عدا ماري سيسيل التي ذهبت إلى مركز الشرطة وسجلت شكوى إثر سرقة بطاقتها المصرفية.

أما بريجيت فقد قالت لي إنها لا تصدق أن الشرطة جاءت من أجل أمر كهذا، لا يشكل خطرًا، قالت إن ثمة من يدق على نافذتها بعد منتصف الليل ويخيفها، ولا تجرؤ لا على فتح النافذة، ولا على الاتصال بالشرطة، لأنهم لن يتحركوا.

كان تصرفي مختلفًا عن تصرفات جاراتي، بسبب الغضب المرافق للخوف، بينما انتبهت أنهن يشعرن بالخوف، لكن دون غضب، خوف يرافقه بعض الخضوع والتسليم لواقع عدم الثقة برد فعل الشرطة أو اكتراثهم فعلًا بأمر كهذا، حيث لم أتعرض للعنف أو السرقة أو الأذى.

كانت نظرات الجيران الرجال مليئة بالإعجاب والقلق معًا، كأنهم أعلنوا لي تضامنهم الصامت، وعجزهم عن التدخل في بلد محكوم بالقانون، لكن القانون فيه بطيء وأحيانًا غير مجد حين يتطلب الأمر تدخلًا سريعًا.

لأنه حدث في سورية

في نقاش مطول مع أختي والمبالغة في رد فعلي الذي لاقى قبولًا وترحيبًا من قبل جاراتي، فشعرن بالأمان، كأن ما قمت به من سلوك "أراه عاديًا"، شملهن بالأمان، لأن هذه الشابة لن تقترب، برأيهن، من الحي بعد أن طردتها وجلبت الشرطة؛ قالت أختي إن الخوف الذي شعرت به مصنوع في سورية، ورحنا نحلل تفاصيل هذا الخوف الذي يطاردنا، وتبين لي بأنني عشت لحظة من النقمة على الخوف، شيء يشبه الشعور بالمهانة لأنني خائفة من صبية صغيرة، صحيح أنها لها سوابق وأنها أقوى مني جسديًا، لكنني قوية في بلد يسود فيه القانون، فلماذا خفت؟

هذا الخوف جعلني أراجع أكثر من ثلاثين عامًا من حياتي التي مرت في سورية، يلتهمنا فيها الخوف في كل يوم، والشعور الدائم بالتعرض للعقاب، دون القيام بأية خطيئة، ففي بلد كسورية، ليس على مستوى النظام السياسي فحسب، حيث قانون الطوارئ مثلًا الذي يجيز للدولة اعتقال من تريد دون محاكمة أو تبرير، بل على مستوى الثقافة الاجتماعية، حيث قوانين البلطجة كما يقول المصريون، أو التشبيح والزعرنة والقفز فوق القانون، وخاصة ضد النساء، حيث مهما كنّ مظلومات، يقف المجتمع ضدهن لنصرة الذكور.

لتحليل وتفكيك الخوف السوري، سأحتاج إلى سنوات من العمل لرصد الطبقات المتراكمة من الخوف، التي يعيشها السوري عمومًا، ابن بلد نظام الأخ الأكبر حسب استخدام أورويل في روايته "1984"، والنساء خاصة، اللاتي لم يُحكى الكثير بعد عن معاناتهن في سجون النظام، في سجون المجتمع الذكوري وعاداته، في قوانين البلد المدونة والشفهية المجيزة للقتل، والفخر بقتلهن... نحن النساء اللاتي لا ظهر لنا إذا قررت القبيلة إعدامنا، ولا حامي لنا، إذا قرر النظام السياسي إبادتنا.

أشعر بالعار لأنني لا أزال أخاف... أشعر بالغضب لأنني لا أزال أخاف... أشعر بالكراهية صوب ذلك النظام السميك الصلب المتعدد الطبقات من الخوف، كلما قشّرنا طبقة، وجدنا تحتها طبقة أخرى من الخوف، تختبئ خائفة تحت طبقة الخوف الأعلى.

لأنه لا يزال يحدث هناك

هذا الخوف اللصيق بي، وبغيري من السوريين، رجالًا ونساء، رغم فرارنا من "أرض الخوف" وفق عنوان فيلم داوود عبد السيد، يحرّضني للكتابة ومتابعة نضالي الشخصي ضد تاريخ الخوف، ويُشعرني بقدر كبير من المسؤولية صوب الذين لا يزالون هناك، أسرى ذلك الخوف، ينامون ويفيقون معه، إلى أن صار جزءًا من حياتهم، من وجودهم، من شخصيتهم...

هذا الخوف هو غير إنساني، غير عادل، لا يُغفر له، أننا في هذا الجزء المتقدم من الحضارة والتكنولوجيا، ولا نزال أسرى أنظمة قاتلة، هربنا منها بأجسادنا، لكنها تحكمنا من تاريخنا وطفولتنا، وتتحكم بنا مهما ابتعدنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.