}

وداعاً للهويّات السوريّة

عارف حمزة 17 سبتمبر 2019
آراء وداعاً للهويّات السوريّة
لوحة للفنان بومبا بمتحف الهجرة في باريس (Getty)
تستدعي عادة الأحداث الكبرى التي تُزلزل بلداً ما، أو منطقة ما، طرح أسئلة عديدة حول ما كان وما جرى وما آل إليه الحال. وهذه الأسئلة تذهب إلى فتح نقاشات طويلة حول الثابت الذي ظلّ ثابتاً، والثابت الذي تضعضع أو تهشّم وتحوّل إلى مفاهيم سائلة بحاجة إلى ثبات. و"المقتلة" السوريّة هي حدث كبير ما زال يُزلزل، منذ ربيع عام 2011، بلداً مثل سوريّة والمنطقة المحيطة بها، وبعضهم يُحيل ذلك إلى بروتوكولات سرّية كُتبت، قبل غزو العراق في عام 2003، لدفع خطى المكان خطوة جديدة نحو شرق أوسط جديد.

هذا الزلزال المستمر في سوريّة أفرز أشياء على أرض الواقع، وفي وجدان الناس، وأفرز تساؤلات مقلقة، في طريقه لتدمير المدن والبشر والبنى التحتيّة للبلاد. فمن مطالبة المتظاهرين بدولة "المواطنة والقانون" إلى الإمارات الإسلاميّة المنقسمة بين القاعدة وداعش و"المذاهب الأقلويّة"، وخلال ذلك تظهر أفكار مُرعبة تذهب إلى تفتيت "الهويّة الوطنيّة السوريّة" التي تُعاني الاستقرار والوضوح منذ الاستقلال. فقد ذهب البعض، سواء داخليّاً أو إعلاميّاً من محللين يهتمون بالوضع السوري، إلى إمكانيّة مناقشة "فيدراليّة" سوريّة تجمع بين مناطق حكم ذاتي تحكمها القوميّة وكذلك المذهبيّة الدينيّة!
الاضطراب في الانتماء إلى هويّة سوريّة جامعة، أو تأسيسها على أساس البعث والقوميّة، جعل الجيش ينقسم ويُحافظ على حماية استمرار الديكتاتوريّة، في الوقت الذي كان عليه أن يبقى على الحياد، ويمنع الاعتداء على الشعب. وجعل الشعب نفسه ينقسم بين مقيم ونازح ولاجئ، بين خائن ووطنيّ، إلى شعب فوق الأرض وآخر في أقبية التعذيب والمعتقلات والقبور المرتجلة.
خلال تلك السنوات، منذ اندلاع الأحداث في سوريّة، صار هناك مَن يُنادي بدول تقوم على مذاهب دينيّة، وليس ملكيّة أو جمهوريّة أو دستوريّة. صارت الناس تتحدّث وفق ذهنيّة مناطقيّة تعتمد على المظلوميّة الحديثة الممتدة من مظلوميّات تاريخيّة مُتعدّدة. صار عندنا أيضاً "حلب الشرقيّة" و"حلب الغربيّة"، ومعبر الموت، وصار هناك من يُرحب بالاحتلال التركيّ لمناطق من البلاد، طالما "الطرف الآخر" لم يُحرّك ساكناً ضد الاحتلالين الروسي والإيرانيّ. وصار هناك مَن يحتفل بحصوله على جنسيّة أجنبيّة.
وما أثار الانتباه في الآونة الآخيرة هو انشغال الإعلام السوريّ أيضاً بالهويّة أو الهويات السوريّة ويبدو أنّه يُمهّد لشيء جديد يُفكّر فيه النظام السوريّ. ففي افتتاحيّة شهيرة لصحيفة تشرين الرسميّة كتب رئيس التحرير محمد البيرق مقالاً حمل عنوان "من نحنُ بعد هزيمة الإرهاب؟". والبيرق كتب هذه الافتتاحيّة مبشّراَ بنهاية الإرهاب بعد تحقيق الأسد "أكبر انتصار تاريخيّ على الإرهاب والإرهابيين التكفيريّين"، وبالتالي، وقبل البدء بإعادة إعمار سوريّة أو تقديم المسؤولين إلى قضاء نزيه أو عودة المهجّرين والكشف عن المفقودين والمعتقلين...، يجب على المنتصرين الجلوس الآن و"ضرورة الخروج بتعريف جديد للنفس بعد انقضاء المرحلة السابقة التي حفلت باختلاط المعاني وسقوط بعضها". ويتبرّع البيرق بتقديم العديد من الأفكار، بعد طرح العديد من التساؤلات من أجل تعريف نهائيّ للهويّة السوريّة التي انتصرت على أكثر من نصف الشعب.  

نعم ولا!
"هل نحن عرب؟"- كانت هذه أولى التساؤلات، إذ لطالما كانت العروبة، وسوريّة هي قلب

العروبة النابض كما ما زالت تقول أدبيّات حزب البعث الحاكم، ولطالما كانت العروبة هي إحدى مكوّنات الهويّة السوريّة بعيداً عن اختراعات البعث. يجيب البيرق عن سؤاله ذاك بنفسه: "نعم ولا. نعم: لأنّنا نتكلّم (اللغة) العربيّة ويجمعنا التاريخ بالعرب، وطوال عقود ظلّت دمشق قلب العروبة النابض. ولا: لأنّ كثيرين من العرب تآمروا علينا، بينما الحليف الإيرانيّ الذي وقف معنا بصلابة لا يستهويه هذا الكلام عن العرب والعروبة، كما أنّ الأصدقاء الروس يشاركون الأصدقاء الإيرانيّين استياءهم من هذا القاموس". ومن الواضح جهل البيرق عندما يربط الأمور بحدث أو موقف شخصيّ من الآخر/ العربيّ المخالف، وهو يقصد بعض الحكام العرب، من أجل إعادة النظر في الهويّة الوطنيّة!! ومن جهة أخرى يُريد أن يُقنع الشعب بضرورة التخلي عن هويته العربيّة؛ لأن الإيرانييّن والروس قدّموا خدمات كبيرة للمحافظة على هذا النظام، ولو على حساب الشعب وهويّته الوطنيّة.
يتابع البيرق جهالته عندما يتساءل "وهل نحن مسلمون؟ نعم ولا. نعم لأنّ أكثريّة شعبنا تعتنق الإسلام ديناً، وقد شكّل الإسلام جزءاً أساسيّاً من هويّتنا الحضاريّة. ولا، لأنّ العالم الذي سنتعامل معه لا يقتصر على المسلمين، فضلاً عن أنّ الحضارة التي سننتمي انتماء عميقاً إليها لا تقتصر على الإسلام، ناهيك عن أنّ حضارتنا تسبق قدوم الإسلام بعدّة قرون". وهنا يُفكر البيرق بأنّ سؤال الهويّة له علاقة بالمستقبل وليس بمكونات الوطن وبالتاريخ. كأنّه يُريد أن يبني الهويّة على أمور خارج حدود البلد/ الوطن وليس ضمن حدوده. وهذا اختراع فكريّ يُحسد عليه. ولكن ما هو قادم أكبر بكثير من تفتيت هذين الجزأين اللذين كوّنا جزءاً مهماً من الهويّة السوريّة.

 

عار الاعتزاز بالهويّة الوطنيّة!
كان محمد البيرق مدير تحرير لصحيفة تشرين (2012 - 2014) قبل أن يصبح مستشاراً لوزير الإعلام السوري محمد رامز ترجمان، والذي عيّنه رئيساً لتحرير الصحيفة التي يعمل فيها كمحرر رئيسي منذ عام 1998. ويبدو أنّه مُنح عدّة أفكار لكي يكتب عنها للقرّاء، إذ لا يمكن له، حتى لو كان مالك الصحيفة، أن يكتب من تلقاء نفسه: "هل نحن أعداء إسرائيل؟". ويُجيب عن هذا السؤال: "نعم ولا. نعم لأننا قضينا سنوات مديدة ونحن نقول إننا أعداء إسرائيل، كما أنّها لا تزال تحتلّ بعض أراضينا. ولا، لأنّ أموراً كثيرة تجمعنا بهذه الدولة الجارة، أهمّها مكافحة الإرهاب، وهي قد تتطوّع لتحسين علاقاتنا مع الولايات المتحدة التي لا تزال تُقيم في بلدنا، وعلينا أن نتعامل معها بما أمكن من إيجابيّة وتفهّم. ومَن يدري فإسرائيل قد تنسحب ذات يوم من الجولان وتعيده إلينا"!!
بعد كلّ ذلك ليس من المستغرب أن يطرح البيرق سؤالاً وجودياً كبيراً على وزن: "وهل نحن سوريّون؟". وسيتابع الإجابة عنه بذات فلسفة الإيجاب والنفي؛ "نعم ولا. نعم: لأنّنا نحمل اسم هذا البلد الذي ينطبع على جوازات سفرنا، كما أنّه الاسم الذي تستخدمه الدول والمنظمات الدوليّة والإقليميّة في وصفنا. ولا: لأنّنا ينبغي أن لا نتمسك كثيراً بهذه الصفة إذ أنّ الدول التي نتعامل معها، والتي كانت إلى جانبنا، لا تُحبّ مبالغتنا في الاعتزاز بالوطنيّة أو التركيز على الهويّة السوريّة".


فلسفة من تأليف القائد

وقبل أن يطرح أحد ما السؤال على البيرق، عن سبب كلّ هذا الانزياح عن الهويّة الوطنيّة ومناجاة إسرائيل والغرب وكذلك عن الفلسفة الجديدة في الـ"نعم" والـ"لا"، يبرّر هو نفسه ذلك في ذات المقال، حيث يقول: "هناك سببان وراء ذلك: الأول أن أعداءنا التكفيريّين وحدهم هم الذين يتمسّكون بقناعات جامدة ونهائيّة لا يتزحزحون عنها، ولا يرضون لها بديلاً، بل يصفونها بأنّها مقدّسة. ولأنّنا النقيض التاريخي للإرهاب التكفيري، فإنّنا نتمسّك بأقصى المرونة والليونة، وندافع عن سيولتنا في الأفكار، وهي وحدها ما يحمي مصالحنا. أما السبب الثاني، فإنّنا نعيش في عصر دونالد ترامب الذي يُغيّر آراءه عدّة مرّات في اليوم الواحد، ولا بدّ أنّ هذا السلوك هو الطريقة الحضاريّة في عالمنا الراهن"!!
شكّلت هذه الافتتاحيّة فضيحة حتى في الداخل السوري، الذي يُعاني أيضاً من هكذا إعلام و"قيادات" إعلاميّة و"الأفكار السائلة" التي يُدافعون عنها، كتهديد علنيّ في الصحافة، في الوقت الذي لا تستحق الهويّة الوطنيّة أيّة دفاعات، بل ستتمّ محاربتها وطردها كما طُرد الملايين من بلدهم سوريّة. لقد جاء اليوم الذي أصبحت فيه إسرائيل إذن "دولة جارة" وهو اعتراف علنيّ من صحيفة حكوميّة دأبت على تسمية إسرائيل بالعدو الصهيوني. وهي تحتل بعض أراضينا، ومن يدري فقد تُعيد لنا تلك الأراضي بانسحابها منها. هكذا ببساطة تنسحب من خلال انسحاب نظام البيرق من هويتي العروبة والاسلام، وتبحث عن هوية جديدة تُعطي فكرة جيّدة عن هذا البلد الذي اسمه "سوريّة الأسد"، ناسياً البيرق أنّ "الأعداء التكفيريّين" يُريدون محو الهويّة الوطنيّة السوريّة، كما يفكر أن يقوم به نظام الأسد بالذات.
هذه الفلسفة الركيكة دأبَ عليها بشار الأسد في خطاباته الركيكة منذ اعتلائه كلّ تفاصيل السلطات في سوريّة، ويبدو أنّها ستصبح فلسفة ونهج القائد في البلد الذي يمحو فيه كلّ شيء بشكل هادئ وعنيف، لكي يعيش في زمن ترامب، كقائد متفلسف يُريد منّا أن نقول ببساطة: وداعاً للهويّات السوريّة، وذهب إليه لكي نسكن للأبد في "حديقة الحيوان"!

*كاتب سوري يقيم في ألمانيا

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.