}
عروض

رواية "وزارة السعادة القصوى".. وحشيّة صراع كشمير

عارف حمزة

24 فبراير 2020
"نزاع كشمير" لا ينتهي رغم وصولنا إلى هذا الزمن المتقدّم من حياة البشريّة، ويبدو أنّ الكشميريّين سيُتابعون دفن موتاهم دون رؤية استقلال منطقتهم عن الهند وباكستان والصين. ولكن يبدو أنّ الصراع الأهم هو مع الهند (التي تسيطر على 43% منها)؛ لطالما كانت باكستان الإسلاميّة (التي تسيطر على مساحة 37%) أكثر أماناً، من الناحية الدينيّة وفقاً لآراء الخبراء السياسيين.

ما يُلفت النظر، خلال هذا النزاع المشتعل منذ تقسيم الهند في عام 1947، أن تكتب روائيّة بحجم أرونداتي روي (1961)، أو أروندهاتي روي بحسب الترجمة البديعة للكاتب والمترجم المصري أحمد شافعي (1977)، رواية لا تقف فيها إلى جانب بلدها الهند في هذا الصراع؛ بل تُلقي الضوء القوي على معنى الوحشيّة والبطش وجنون بساطة قتل الآخر، حتى لو كان طفلاً، من قبل جيش بلدها ورجال فروعه الأمنيّة.
وسبق لصاحبة رواية "إله الأشياء الصغيرة"، بوكر 1997، أن أعلنت موقفها الواضح من هذا النزاع، مما عرّض عملها السياسيّ، كناشطة في حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة، لهجمات كثيرة من الصحافيين الموالين للحكومة، وحتى من قبل الكونجرس الهندي القومي.
ومن نافل القول التذكير بموقفها من حرب إسرائيل على لبنان في عام 2006، عندما وقعت مع عدد من المثقفين الخطاب الشهير "جريمة حرب" الذي نشر في الغارديان، متهمين فيه إسرائيل بإرهاب الدولة.


حكايات من بحر العنف
لا تحسب روي حساباً لمسألتي الربح والخسارة عندما تُقدّم لنا روايتها الجديدة، التي كان من الممكن تحويلها إلى عدّة روايات؛ لأنّ القارئ يظنّ أنّ هناك حكايات منفصلة، حتى أنّه قد يظن أن الرواية نفسها هي روايتان على الأقل. الرواية الأولى عن مجتمع "الهيجرا"، بينما الرواية الثانية عن كشمير وزملاء الدراسة الأربعة وحبهم للمسرح. ولكن بعد عشرات الصفحات تستطيع روي بخفة وسلاسة أن تجد المصبّ المناسب للقصص الكثيرة والشيقة، رغم الألم المتعدد الصور والينابيع.

في القسم الأول من روايتها الجديدة "وزارة السعادة القصوى" تحكي روي قصة أم وأب ينتظران ولداً بعد ولادة ثلاث بنات لهما. واتفقا على تسميته "آفتاب". وليلة ولادتها تبشرها القابلة بولد. ولكن في الصباح تكتشف الأم أنه طفلة، وتشعر بالفزع من طفلتها وتكرهها.
بسبب انقطاع الكهرباء في شاه جهان آباد "كان ذلك الخطأ مقبولاً". ومع ذلك سمّته "آفتاب". ولم تخبر حتى زوجها بأنها أنثى. وتأخذ آفتاب إلى مزار "حضرة سرمد" لكي "يغرس في قلبها محبة آفتاب".
بعد عدّة سنوات سيعرف الزوج بأمر ابنه، وتبدأ رحلة البحث عن جراح ليُعيد البنت ابناً. ورغم كل الجهود يفشل الوالدان، ويفشلان حتى في إبقائه في البيت. فآفتاب كان يُلاحق الحسناوات النادرات، ويشتهي أن يلبس ويتعطر ويتمختر مثلهن. لذلك اختار الانتماء إلى مسكن الهيجرات في "الخواب جاه" وهو في الثالثة عشرة من عمره. ومنذ ذلك الوقت صار اسمه الآنسة "أنجم".
في ذلك البيت ستسأل "نمّو" أنجم هل تعرف لمَ خلق الله الهيجرات؟ ولكن أنجم لا تعرف. فتقول لها "نمو": "كانت تجربة. قرّر الرب أن يخلقَ شيئاً، كائناً حيّاً، بلا قدرة على السعادة. فخلقنا".
في الرابعة عشرة بدأت مظاهر الذكورة تظهر على أنجم! فشعرت بالرعب، وأخذوها الهيجرات إلى الدكتور مختار ليقوم بعمل جراحيّ وتحويلها نهائياً إلى امرأة.
الهيجرات، المتحولات جنسيّاً، يغنين ويرقصن ويقمن الحفلات "يعيش أولئك جميعاً في مستعمرة خاصة ويحصلن على رواتب من الحكومة، فلا تضطر أي منهن إلى كسب لقمة العيش من ممارسة قلة الأدب".

 ما يُميّز هذا العمل هو تلك الفنّية العالية، التي تميّز أسلوب روي وأوصلتها إلينا بالتأكيد الترجمة الموفّقة من المترجم
















رواية أخرى
في القسم الأول نعثر على الكثير من الشخصيات التي تسكن ذلك المكان، وزواره، والكثير من قصصها الغريبة والمشوّقة. وينتهي ذلك القسم بخروج أنجم من دون ابنتها بالتبني "زينب" من مسكن الهيجرات، لتذهب وتسكن في المقبرة، في غرفة متهالكة. وهناك سنتعرف على شخصيات جديدة؛ ومن أهمّها شخصية صدام حسين (دياتشيد)، الذي قتل الهندوس والده (المسلم) الذي كان ينقل جثة بقرة، لأنهم ظنوا أنه هو الذي قتلها. وسيُعاونها صدام حسين بتوسعة المكان وتحويله إلى "نزل جنة للضيافة". النزل الذي سيُقدّم خدمات لدفن الموتى، وسيتّسع ويتسع حتى يصير قرية داخل المقبرة.

القسم الثاني، من دون أن يظهر هذا التقسيم في الرواية، هو قصة أولئك الشبان الثلاثة وصديقتهم. عصب الرواية هو هنا، حيث يجتمع ثلاثة شبان في الجامعة، ويجمعهم مع الفتاة "تلو" حب المسرح وحبّها.
هذا القسم يستغرق ثلثي الرواية، التي يزيد عدد صفحاتها عن الستمئة صفحة. وفيه تفترق سبل الشبان وتلتقي بشكل متواتر، سواء من خلال زواج تلو من موسى ثم ناجا، أو من خلال استئجارها غرفة لدى بيبلاب.
بيبلاب وناجا كانا طالبين في كلية التاريخ. سيصبح ناجا صحافياً حكومياً مرموقاً، ومشهوداً له بالتأثير في دوائر السلطة والرأي الهندية. بينما سيصبح بيبلاب في موقع استخباراتي كبير.
تلو وموسى كانا طالبين في كلية العمارة. تلو أصلها منبوذ، ولا أحد يعرف والدها. بينما موسى سيصبح المطلوب رقم واحد في كشمير.
استخدمت روي الراوي العالم في القسم الأول من الرواية، بينما القسم الثاني سيتعدد الرواة بشكل سلس ومتبادل يُحسب لصالح العمل. 


حكايات وروايات
في القسم الثاني سنعثر على حكايات أخرى تخص غير هذه الشخصيات الأربع، ومنها على سبيل المثال حكاية الدكتور "آزاد بهارتيا"، المضرب عن الطعام منذ ما يزيد عن عشر سنوات، أو أساليب التعذيب والتصفيات الجسدية التي كان يقوم بها الرائد "أمريك سنج"، وفريقه الأمني الوحشيّ، وكذلك رحلة لجوئه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وانتحاره هناك بعد أن يقتل زوجته وأطفاله، ورواية أخرى تفيد بأن كشميريين لحقوا به إلى هناك وقتلوهم. وكذلك حكاية "غفور". أو حتى حكاية مكان مثل "جنتر منتر" الذي شهد اعتصامات دائمة. "كل هؤلاء الناس من جميع أركان الهند يأتون إلى هنا بأحلامهم ومطالبهم. وما من أحد يُنصتُ إليهم. الشرطة تضربهم، والحكومة تُعرض عنهم".
وفي جزء متقدّم من هذا القسم ستدخل أنجم من جديد إلى رقعة الرواية ومعها صدام حسين، اللذان يظنّ القارئ بأنّهما انتهيا في القسم الأول. ولكنّهما سيستضيفان تلو في نزل الجنة بعد مقتل موسى بشكل غير حقيقي، ومن بعد مقتله بشكل حقيقي.
لا تذهب الرواية فقط للحديث عن وحشيّة الجيش الهندي والأمن الهندي، بل كذلك عن الإخوان، أو الفصائل الإسلاميّة الكثيرة، والتي لم يكن همّها تحرير كشمير، بقدر ما كانت تُبعد كشمير عن حرّيتها.

  يمكن لنا أن نتفهم إهداء هذه الرواية من قبل روي، على أنّه أيضاً إهداء ذكي؛ حيث كتبت: "إلى مَن لا عزاء لهم"


















تتحدّث الرواية كذلك عن الفقر والبؤس وتناحر الطبقات، وبؤس طبقات المنبوذين. عن الطقوس والشعارات التي تعود لآلاف السنين، وما زالت تحكم الناس، وتتحكم في مصائر الناس. عن دوائر الأمن والوحشيّة في قتل وإذلال كل من ينادي بحرية كشمير. عن تحويل دور السينما والمدارس والمستشفيات في كشمير إلى ثكنات للجيش الهندي، ومقرّات التعذيب والقتل.
ولكن كلّ ذلك بلغة روائيّة وتقنيات كتابة عالية. وكذلك من خلال عمران روائيّ متماسك طوال أكثر من ستين عاماً من عمر آفتاب أو أنجم.
لغة سرد لا تخلو من ذلك الوصف العالي لدواخل الشخصيات وتأثيرها على باقي الشخصيات، وحتى على القارئ. "كان إشفاق مير (نائب قائد مركز الاستجواب المشترك في سينما شيراز) قصيراً قصراً مذهلاً، وبادي القوة بصورة مذهلة، وأبيض على نحو مذهل حتى بالنسبة لأحد أبناء كشمير. أذناه وأنفه ورديّة فاقعة. ويوشك أن يصدر عنه إشعاع معدنيّ".
بهذا المعنى، ليست هذه الرواية رواية تاريخيّة أو توثيقيّة، رغم اعتمادها على الوثائق والتاريخ في أكثر من مكان. ولا تعتبر رواية تقريريّة مباشرة. بل إن ما يُميّز هذا العمل هو تلك الفنّية العالية، التي أوصلتها إلينا بالتأكيد الترجمة الموفّقة من المترجم، التي تميّز أسلوب روي؛ الذي يعتمد على البطء والتفاصيل واستخدام الكثير من الشخصيّات والقصص لامتاع القارئ، ولكنّها لا تفقد أي خيط من بين أصابعها.


الذي سيقرأ هذه الرواية سيتعرّف على بؤس الكشميريين، حيث "كل خمسين متراً كان على أحد جانبيّ الطريق جنديّ ثقيل التسلح، متنبّه، ومتحفّز على نحو منذر بالخطر. كان في الحقول جنود، وفي أعماق البساتين، وعلى الجسور وفي المجاري، وفي المحلات والأسواق، وعلى الأسطح، كلّ يُغطّي الآخر، في شبكة امتدت على طول الطريق صعوداً في الجبال. في كل جزء من وادي كشمير الأسطوري، مهما كان ما يفعله الناس، سواء أهم يمشون أم يصلون أم يستحمون أم يلقون النكات أم يبيعون الجوز أم يمارسون الحب أم يرجعون إلى بيوتهم بالأتوبيس.. فهم في مرمى عدسة بندقيّة أحد الجنود".
وكذلك سيتعرّف على البؤس الذي اسمه الهند. على الفقر الذي يزداد مثل حفرة واسعة وعميقة، رغم أن الفقراء يتم طردهم في شاحنات إلى خارج المدن، ويموت الكثير منهم من الجوع والعوز وفي جوف تلك الحفرة. لذلك يمكن لنا أن نتفهم إهداء هذه الرواية من قبل روي، على أنّه أيضاً إهداء ذكي؛ حيث كتبت: "إلى مَن لا عزاء لهم"!!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.