}

شيعة العراق بين ولاية الفقيه وولاية الأمة

حربي محسن عبدالله 17 ديسمبر 2019
آراء شيعة العراق بين ولاية الفقيه وولاية الأمة
من وحي نصب الحرية لجواد سليم
ثمة مثلٌ عربيٌ قديم يقول "لو تُرك القطا لنام". كان هذا المثل يرد كثيراً على ألسنة مراجع الشيعة وعلماؤهم في النجف وقم، منذ أن ذكره الشيخ الأنصاري المتوفي عام (1281هـ)، صاحب كتاب (المكاسب)، وهو من أهم كتب الفقه، ومصدرٌ لا يستغني عنه الطالب في الحوزة العلمية.
يراد بترداد هذا المثل معنى يفهمه الشيعة إبان زمن التقيّة، ويعني أن ليس هنالك من إمكانية لإقامة العدل إلا على يد الإمام المهدي المنتظر. وكانوا يردّدون أيضاً (خير الأعمال انتظار الفرج)، الذي يأتي على يد الإمام المعصوم. والعصمة هنا ليست هي الملكة المانعة من الوقوع في الخطأ فحسب، بل يعرّفونها بالشكل التالي: العصمة هي لطف إلهيّ خصّ الله بها من اصطفاه من عباده. ومن هنا يدعّم التشكيك بكلّ محاولة لإقامة العدل قبل المهدي على أساس أنّ شرط المعصومية غير متوفر. لذلك كان رجال الدين الشيعة ومراجعهم ينأون بأنفسهم عن الشؤون السياسية. لكن جاء بعد الشيخ الأنصاري من أعاد الجدل حول موضوع التقية، وهو الإمام الخميني، مستنداً على رأي فقيه آخر كان يرى الأمر بخلاف رأي الشيخ الأنصاري، وهو الشيخ أحمد النراقي المتوفى عام (1245هـ). ويدعو الشيعة إلى الدخول في المعترك السياسي، ومغادرة مبدأ التقية. ولذلك تعايشت رؤيتان في سجال متواصل، حتى الوقت الراهن.
ولا تزال الرؤيتان للمدرسيتين الفقهيتين الشيعيتين في سجال وصراع فكري وسياسي محتدم منذ عقود، بين مدرسة فقهية يمثلها اليوم السيد السيستاني، وسلفه أبو القاسم الخوئي، المؤمنة بولاية الأمة على نفسها، حيث شرعية الحكم والدولة من الشعب. وأشار السيستاني بما نصه: "إن الحكومة إنما تستمد شرعيتها، في غير النظم الاستبدادية وما ماثلها، من الشعب، وليس هنالك من يمنحها الشرعية غيره، وتتمثل إرادة الشعب في نتيجة الاقتراع السري العام إذا أُجري بصورة عادلة ونزيهة". وبين المدرسة الأخرى التي يتزعمها اليوم مرشد الثورة الإسلامية في إيران، علي خامنئي، والتي ورثها من سلفه الخميني، وتؤمن بأن الشرعية لله، وأن الولاية هي مطلقة للفقيه العادل الحائز للشروط. لكنّ ولاية الفقيه، وهي الأطروحة التي كتب لها النجاح في السيطرة على مقاليد الأمور في إيران، قلبت الموازين السابقة، وحوّلت أصحاب الحلّ والعقد (على المستوى الفقهي التشريعي) إلى جنود متطوّعين لخدمة ولاية الفقيه. ولم يقوَ على مواجهة مدّها إلا القليل من مراجع الشيعة، فكان التحوّل البراغماتي لكثير من مراجع الشيعة، في النجف وقم وطلابهم، نحو نهج ولاية الفقيه، والإيمان بالإسلام السياسي، بنسخته الشيعية
المعدّلة التي فرّخت عديد التنظيمات والحركات والأحزاب، وإن كان هناك من الرموز الكبيرة التي بقيت على عهد الشيخ الأنصاري، كالإمام أبو القاسم الخوئي الراحل، وخلفه السيد السيستاني.
الإسلام السياسي الشيعي في العراق، بكل مسمياته الحزبية وتياراته، انتقل إلى السلطة بعد إسقاط نظام صدام على يد الولايات المتحدة، وتأثّر بكلّ من ولاية الفقيه وكتابات المرجع محمد باقر الصدر في دعوته الشهيرة للعمل على إسقاط نظام صدام وإقامة حكم بديل. فقد أصدر الصدر فتوى كانت أحد أسباب إعدامه من قبل النظام، جاء فيها: "على كل مسلم في العراق، وعلى كلّ عراقي خارج العراق، أن يعمل ما بوسعه، ولو كلّفه ذلك حياته، على إدامة الجهاد والنضال من أجل إزاحة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وإقامة حكم فذ شريف يقوم على أساس الإسلام). لذلك بقيت تلك الأحزاب تتلطى تحت عباءة المرجعية حتى يومنا هذا. وما يجري في العراق في وقتنا الراهن من مطالب جماهيرية واسعة لمحاربة الفساد، وإسقاط ورقة التوت عن عورة النظام القائم على أكتاف الإسلام السياسي الطائفي بامتياز، يدعونا إلى وقفة تأملية في محاولة لالقاء الضوء على زاوية في غاية الأهمية، عن دور المرجعية، وما لها وما عليها، في هذا الوقت العصيب.
لقد دخل الإسلام السياسي الشيعي في العراق معركة السلطة مع الأطراف الأخرى على أساس المحاصصة الطائفية، وتحت شعار (الإسلام هو الحل). وتفاصيل هذه المعركة معروفة لكل متابع للشأن العراقي. وكيف تحولت تلك المحاصصة إلى مشروع لسرقة المال العام ونهب ثرواته. فقد تحّولت الحياة في العراق إلى مهرجان متواصل من الاحتفالات الدينية، المتضرّر الأكبر فيها هو القطاع الخاصّ وصغار الكسبة والبائعون المتعيّشون من أرباح سلعهم البسيطة يوماً بيوم، وذلك بإحياء مناسبات، وخلق أخرى، ومدّ أيامها لتتواصل أياماً بلياليها، في موكب عاشورائي يهدف إلى ترسيخ السلطة بيد حفنة من الأحزاب والشخصيات، في توزيع لكعكة الغنائم على حساب العراق شعباً ومستقبلاً، وتطبيقاً لما قاله الإمام الخميني في كلمة مشهورة، تجدها بالخط العريض على أسيجة الأبنية الحكومية وجدران الجوامع والحسينيات في إيران، وهي: (كلّ ما لدينا جاء من عاشوراء)، أي كلّ الخير الذي أتت به السلطة هو بفضل عاشوراء وطقوسها. وركّزت أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة في العراق على إحياء المناسبات الدينية، ووظّفت واردات الدولة من أجل هذا الهدف، وفتحت الباب على مصراعيه للغلوّ، وإثارة التطرّف، باستعداء أطراف أخرى لا تقلّ عنها رغبة في إذكاء نار الفتنة الطائفية. فتّم إعادة إحياء ألقاب وتسميات دفنت منذ قرون، كالناصبية، والرافضة، والمرتدّين، إلى آخر ما تفتق عن ذهنية الطائفية وزعمائها. وبذلك فُتح الباب على مصراعيه لطلب كلّ طرف من إخوته في العقيدة - على امتداد عالم التعصّب الذي بات يمتلك قنوات عديدة لدعمه، أقلّها شأناً القنوات الفضائية، مدّ يد العون بالعدّة والعدد، وشبكات تجنيد المتطوّعين لكلا الطرفين، وخلايا
نائمة، وأخرى مستيقظة. فهل يمكن للإسلام السياسي بعد ذلك، وبكلّ تياراته وتنظيماته الحزبية، وبشقّيه الشيعي والسني، أن يكون إلا طائفياً؟ وهل يمكن لمن أصبح زعيماً سياسياً بفضل طائفته، أو طائفيته، أن يكون صاحب مشروع وطنيّ ديمقراطيّ؟
ها نحن أمّة تعيش على أمجاد الماضي بامتياز، دون الالتفات إلى أيّ محاولة لإعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، بل ولدينا اختلافات كبيرة في تعريف التراث. وكلّ منْ حاول بجهده الشخصيّ مقاربة هذا الموضوع اصطدم بجدران صلبة وأسوار عالية، تبدأ عند تعريف العصمة، ولا تقف عند خلافة الإنسان على الأرض. قد يعترض بعض الإسلاميين على الطائفية، وينأون بأنفسهم عن وحولها، ولكن هل لدى هؤلاء عملٌ ناجزٌ يبحث في أصل المشكلة، وكيفية الخروج على نصوص ترسّخت في الأذهان لفرط تكرارها؟ دون التورّط في البحث عن أسبابها وملابساتها، والظروف التي أوجدتها. بل وأصبحت هي سبب الصيد الوفير و(كلّ ما أمطرت به سماء الطائفية من خيرات وألقاب ونفوذ وسلطة على زعماء الطوائف وأمراء الحروب)، فكيف يتخلّى الطائفيّ عن طائفيته، وهي من أوصلت خطاباته وسيرة حياته إلى الفضائيات، بل وأصبح ينافس نجوم المسلسلات الرمضانية في الظهور واللقاء مع جمهور المعجبين. قد يحيلك آخرون إلى أسماء لامعة في الفكر السياسي الإسلامي، من سيّد قطب، وحسن البنا، إلى محمد باقر الصدر، ولكنّ سؤالي هنا هو: هل كان لدى هؤلاء مشروعٌ يتجاوز الطائفية؟ قد تجد شذرات من التسامح والدعوة للوحدة هنا وهناك في كتاباتهم، تشبه إلى حد كبير ما نسمعه في مؤتمرات التقريب بين المذاهب والحوار الإسلامي - الإسلامي، وإذا استعرنا مصطلحات من قاموس نصر حامد أبو زيد، نقول إنها دعوات توفيقية تلفيقية تلوينية لأزمة فكر لا يستطيع أن يخرج رأسه من الزاوية التي حشر نفسه فيها، ويصرّ على مكابرته، ويتاجر بأوهام وحدة الأمة الإسلامية التي تنخرها الطائفية والتزمّت، وتمزّقها الفتاوى المتناقضة التي تصل حدّ التكفير، وإباحة سفك الدماء بين مشيخة وأخرى قد تكون من الطائفة نفسها. إنّ منْ يرفع شعار "الإسلام هو الحلّ" يواجه بالسؤال التالي عن أيّ إسلام يتحدّث؟ إسلام الرافضة، أم إسلام الناصبية؟ إسلام داعش، أم إسلام المليشيات الملثمة؟ والمذابح التي جرت بالعراق، وساهم فيها طرفا الإسلام السياسيّ، وأذكتها أطراف إقليمية ودولية، كلّ حسب مصالحه وطموحاته وأهدافه، هل تقنع أيّ عاقل بأنّ  شعار "الإسلام هو الحلّ" مقنع لأحد؟
من المؤكد أن ليس هناك عاقل في العراق يقتنع، بعد كل الأثمان الباهظة التي دفعها العراقيون جميعاً، بأن تبقى الأمور على ما هي عليه. لذلك تتصاعد انتفاضة العراقيين اليوم في لحظة حاسمة أعادت الأمل في بث الروح الوطنية (على حد تعبير ممثلة الأمم المتحدة في العراق) من جديد، بعد أن غطتها رمال الصحراء الطائفية. مما جعل المرجعية المتمثلة بالسيستاني ترفع الغطاء عن الأحزاب الشيعية الحاكمة، وتؤاز المنتفضين، في خطوة أولى لفك الارتباط مع تلك الأحزاب التي استغلت غطاء المرجعية منذ عام 2003 من جهة، ومن جهة أخرى تحيي رؤيتها المؤمنة بولاية الأمة في مواجهة ولاية الفقيه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.