}
عروض

"مظفر النواب.. الظاهرة الاستثنائية".. الشعر العامي أنقى

قيل له، لماذا يحوي شعرك كلاماً بذيئاً؟ قال: الواقع الذي نعيشه أكثر بذاءة من كل كلمة نابية. إنه مظفر عبد المجيد النواب، الشاعر العراقي المعاصر، والسياسي الذي شغلتْ قصائده الناس من الماء إلى الماء في هذه البقعة من العالم التي تمور بالأحداث. هو موضوع الكتاب الذي بين يدينا، للشاعر والكاتب الصحافي كاظم غيلان بعنوان (مظفر النواب.. الظاهرة الاستثنائية) الصادر عن دار مكتبة عدنان في بغداد (2015). هذا الكتاب عبارة عن دراسة من عدة حلقات تتناول العديد من الآراء والقناعات التي يبوح بها مظفر بيقين راسخ، وحدس يُحسد عليه. وكشهادة حية عن النواب يقدمها الكاتب يتمنى أن يكون فيها شيء من الوفاء للشاعر الكبير.

يقول الكاتب: "ما وجدتُ شخصية تتمتع بتواضع كالذي يتمتع به (النواب)، فلم أسمع منه كلمة تجرح أحداً، حتى لو كان هذا (الأحد) يهاجمه، إنه يكتفي بالصمت، ولربما هو الرد الأمثل الذي نفتقره، ولم أسمع منه انتقاصاَ من تجربة شاعر، أي شاعر كان، له آراء في كل شيء، السياسة، الاقتصاد، الشعر، الفلسفة، وهو عاشق من الطراز النادر، لكنني ما وجدت عاشقاً لبغداد يضاهي عشقه لها". ويقف الكاتب أمام البعض من القصائد القصيرة والقديمة، وثمة ما يمكن إحالته إلى أدب السيرة، إلى جانب آراء وانطباعات، كان قد قالها النواب ضمن لقاء تلفزيوني أجراه معه تلفزيون دمشق في ثمانينيات القرن الماضي وصل إلى يد الكاتب على شكل كاسيت في حينها.
ننتقل إلى الحلقة الأولى من الدراسة، وقد خصصها الكاتب للحديث عن حركة التجديد في شعر العامية العراقي ليقف عند الظاهرة النوابية، ويتساءل بشيء من الاستغراب والإعجاب الشديد والمحقّ بالطبع عن الكيفية التي تمكن فيها شاعر بغدادي الجذور، بيئة ولغة، من احتواء مفردات لهجة أعماق الجنوب العراقي وتوظيفها، بل وينطلق منها إلى حيث آفاق الحداثة. وهو هنا يشارك رأياً للشاعر العراقي الراحل عزيز السماوي الذي يرى "أن وحدة التفعيلة ظهرت في الشعر الشعبي العراقي قبل ظهورها في شعر الفصحى، وأول الحداثة ظهرت في هذا الشعر في العشرينيات من القرن الماضي في العراق، أي قبل أن تظهر عند السياب ونازك الملائكة". وهنا يحتكم الكاتب إلى الشاعر النواب نفسه للإجابة عن تلك التساؤلات: "رحت في عام 1955 - 1956 إلى أهوار العراق، إحدى مدن جنوب العراق الرئيسة، والتقيت هناك بمغنين في المنطقة، هم (غرير) و(جويسم) و(سيد فالح)، وقد ذهلت فعلاً للغنى الموجود في غنائهم، وتكشف لي منهم عالم مهمل، ولكنه عالم مملوء بالجمال من الصعب أن نجد عالماً بديلاً منه، ويمكن أن يسد حاجة كبيرة في إمكانات الخلق لدي، كما لو كنت وجدت طينة معجونة جداً ومخمرة جيداً لتشتغل عليها تمثالاً، أو تصنع منها شيئاً. فهذا العالم، عالم مختمر، بما فيه من طين وماء، والقصب وأصوات الجواميس. كنت أمام عجينة حية تماماً تنتظر ممن لديه فهم للعناصر الشعرية الحديثة أن ينتبه إليها، ويشتغل على هذه المادة الخام الهائلة التي لا تنضب منابعها".

 

الوطنية لدى الاتجاه الجديد
في الحلقتين الثانية والثالثة، يتوقف الكاتب عند الوطنية لدى الاتجاه الجديد الذي يمثله النواب في الشعر الشعبي العراقي. فالوطنية هي الإرث الذي استند إليه وعمل على توظيفه عبر العديد من الإنجازات الكبيرة بوصفه خطاباً للتأججات التي زخرت بها حركة اليسار العراقي، وما خاضته القوى الوطنية من معارك ومآثر بطولية تاريخية، لا سيما في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ويتناول ما أهمله النقد من إنجازات النواب، وقصائده ذات المنحى الملحمي، التي جسّدت تجربة عامرة بالثورة والاحتجاج. ويشير إلى ولع النواب بالأهوار عندما يقول "الأهوار هي الموضوع الذي ساعد على تفتح كل الأشياء فيّ، فالهور ليس مجرد مكان، إنما هو زمن وروح أيضاً، كما أن الكتابة في الشعر الشعبي العراقي قاصرة إذا لم تفهم روح الهور".
القسم التالي من الكتاب يضم حوارين، الأول أجراه الكاتب كاظم غيلان مع النواب، والحوار الثاني للصحافي علاء المفرجي يساهم فيه الكاتب لينشر في جريدة المدى. وفي معرض إجابته على سؤال في ما لو أن الشعر العامي بالنسبة له قد استنفد أغراضه؟ يقول النواب: "يساورني شعور غريب أن الشعر العامي أدى مهمته العظيمة، ونحن على أبواب مرحلة جديدة في الشعر العامي، ربما ستظهر إرهاصاتها الآن. كتبت في الفترة الأخيرة عدداً من القصائد، لكن العائق كان مرضي (باركنسون)... أصبحت أكتب سطراً، ويضيّع الثاني عليّ المعنى، هذا من خصائص المرض، وحتى أتغلب عليه بدأت بكتابة قصائد قصيرة، أكثّف أقصى ما أستطيع، أكتب وأحفظ، أضع البناء الكامل للقصيدة حتى أحفظها".
قبل أن نصل إلى خاتمة الكتاب، وهي عبارة عن أوراق من قصاصات كتبها النواب، ثمة صفحات لقصائد مختارة، ولكتابات بخط يد النواب مصورة، فيها آراء وقصائد. نقرأ في إحدى القصاصات: "... إننا نخضع لحدٍ بيولوجي، وشرطٍ اجتماعي. طاقة الإنسان على القدرة أكبر من الحدّ والشرط. لا أؤمن بحتمية تاريخية مجردة.. هنالك حتمية موضوعية، أما الحتمية التاريخية فهي فعل الإنسان وعلاقاته. ما زلنا حتى الآن فعل التاريخ الإنساني العشوائي". ونجد في قصاصة أخرى ما كتبه مظفر النواب عن رأيه بالشعر الشعبي، يقول فيها: "أما الشعر الشعبي، فهو أنقى فيّ.. لأني أكون في الناس من خلاله.. لأني مع الصورة والموسيقى والحس مباشرةً.. همومي هنا تمتزج بهموم الفلاحين وتحدياتهم.. أو انسحاقهم.. في الشعر الشعبي تنمو التجربة بعنف، لأني بدون المعجم.. بدون الإغراقات اللغوية.. بدون الهموم الفلسفية المجردة.. إنه لقائي وفرحي بالناس.. فرحي وحزني واحتجاجي.. والنشيد الهادر الذي يسبق الثورة.. وارتباطي بما حولي..".
نختم هنا بما نقله لنا الكاتب عن طفولة النواب، وبدايته مع الشعر، عبر قصاصة تتحدث عن محلة شعبية في بغداد، حيث وُلد النواب في عام 1934، يكتب فيها متذكراً: "الأهازيج والأفراح والطقوس الحزينة، والأزقة والشناشيل.. وبيتنا على النهر مقابل السراي الحكومي... في الثامنة من عمري، كتبت أولى محاولاتي الشعرية. كنت أحب قص الورق.. أربك البيت بالأوراق المقصوصة، وأحب أن أجمع الشمع الذائب في الأعياد لأصنع شموعاً جديدة، يوم كدت أن أحرق البيت..".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.