}

"في انتظار جودو" أكاد أقفز إلى قطار مكارثي

أنس إبراهيم 3 سبتمبر 2018
آراء "في انتظار جودو" أكاد أقفز إلى قطار مكارثي
مشهد من فيلم "غروب جزئيّ"

الضّجر يحبّ الرّفقة كالبؤس، وربّما أكثر. عندما أكون ضجرًا أعجز عن الإصغاء لأيّ شيء، أو قراءة أيّ شيء، أو مشاهدة أيّ شيء. "لا شيء يعجبني"، بكلمات درويش، يقول المسافر في الباص، والجالس فوق مقعد في حديقة فارغة، محدّقًا بعينين فارغتين في السّماء الصمّاء.. أشياء هنا وهناك تتحرّك ببطء وجودي قاتل، تدلّ على نفسها بما هي "كينونة" تتحرّك في فضاء الكائنات العبثيّ. أنظر إلى شجرة سنديان السيّد روكنتان، وتلك قد تكون أيّ شجرة، وأرى تلك "الكينونة" التي تبعث على "غثيان سارتر الوجوديّ"، لما تخيب آمال الوجوديّ الحائر السيّد روكنتان في التقاط، أيّ "انتقالٍ سحريّ" للكينونة إلى أخرى، يبرّر وجودها. ليس ثمّة من مبرر لشيء، ليس ثمّة من داع لشيء، ليس ثمّة من شيء إذًا، ليس هناك سوى الضّجر.

والضّجر يحبّ الرفقة كما البؤس، وربّما أكثر. ولمّا أشعر بالضّجر، وهو كالأرق، يأتي ليلًا، ويأتي نهارًا، أشعر أنّه الحالة البشريّة المتواصلة عبر التّاريخ، الوضعيّة البشريّة الأكثر وضوحًا ونقاء عبر تاريخ الإنسان..

وفي رفقة الضّجر، يحضر الملل، رفيقًا مخلّصًا إلى حد ممل وقاتل، وفي وصفه يقول كيركيغارد: "مرعب إلى حدٍّ لا يمكنني عنده أن أصفه إلَّا بالقول بأنّه مرعب إلى درجة مملّة". يحضر الضّجر، والملل، في المرض، والمرض يستطيع تحقيق أقسى درجات الملل بعد حين من التأكّد من وجوده. المرض، التقدّم في العمر، الروتين، العاديّ، اليوميّ، التّكرار.. وأكاد أسمع الآن صوت البروفسور الذي كاد يقفز أمام القطار، ملقيًا بكتلة ملله وضجره كلّها دفعةً واحدة، كتلة من الوجود غير المحتمل في وصف الحياة؛ وهو يقول: "ظلّ الفأس يحوم فوق كلّ متعة، كلّ طريق ينتهي بالموت، كلّ صداقة، كلّ حب؛ العذاب، الخسارة، الخيانة، الألم، المعاناة، التقدّم في العمر، الذلّ، مرض مزمن بشع.. وكلّها ذات معنى واحد..". كلّها تحمل الضّجر في طيّاتها، وكلُّها تنتج الضّجر باستمرار.

"دائمًا ما نجد شيئًا لنفعله.. إيه ديدي؟ ليعطينا الانطباع بأنّنا نوجد"- تلك عبارتي الأثيرة من مسرحيّة "في انتظار جودو"، والتي أشاهدها في كلّ ليلة من سنوات طويلة حتى الآن. تلك العبارة الأثيرة تلخّص كلّ شيء، أردّدها بيني وبين نفسي لمّا أهمُّ بفعل شيء ولا أفعله بسبب الضّجر، فتتبعها العبارة الأثيرة الأخرى: "لا شيء هناك لفعله". ثمّ يعاودان الكرّة، ديدي وجوجو، ديدي هو فلاديمير، وجوجو هو أستروجين. أستروجين ينسى كلّ شيء في الحياة، كلّ شيء، ويظنّ أنّ ما نتذكّره دائمًا هو حلم، ففي اليوم الأول من الانتظار، يظلّ ديدي يسأله إن كان لا يتذكّر هذا أو ذاك، ويجيبه أستروجين: "لا بدّ أنّك حلمت به". ولكنّه يتذكّر كلّ ما يتعلّق بالطّعام أو بالألم. إيه جوجو؛ أستروجين هو الإنسان، هو ذا الإنسان يهرع إلى قطعة من العظم ملوّثة بالتراب ويتناولها فرحًا شاكرًا، ثمّ وفي اليوم التالي يفكّر كيف بإمكانه أن يبتزّ ويستغلّ ضعف من منحه تلك القطعة من العظم، لنيل قطعة عظم أخرى.. هل يضربه؟ هل يفاوضه على مساعدته؟ ولكنّه كعادته، وبعد حوار قصير مع فلاديمير، ينسى الأمر برمّته، ينسى حتى تلك الأشياء التي كان ليتذكّرها لو فعلها. أما فلاديمير فهو النّوع الآخر من الإنسان، هو ذا الإنسان يدقّق بكلّ شيء، يسائل حقيقة كل شيء من حوله. هل كان حلمًا؟ هل كان وهمًا؟ هل هو محقّ، أم أنّ الآخرين محقّون؟ هل عاش حقًا؟ هل كان حقًا؟ هل هو موجود حقًا؟ هل جودو سيأتي؟

ولكنّ أحدًا لا يأتي، لا أحد. ما يجعل من أستروجين، فلاديمير، بوتزو ولاكي، رفقاء جيِّدين للضّجر، إنّهم ثابتون في مكانهم، أو مثبّتون بواسطة بيكيت، شفيع الضّجرين في كلّ الأزمنة وقدّيسهم الوسيم، بعينيه الكئيبتين، وملامح وجهه التي حفر فيها الزّمان، وانهيار العوالم من حوله.

كان لا بدّ بعد هذا كلّه أن يكتب بيكيت لنا، نحن رفقاء الضّجر، مسرحيّة، تثير مللًا ليس مرعبًا على طريقة كيركيغارد، بل تثير مللًا على طريقة أستروجين؛ إنه ملل يثير في المرء النزوع نحو النّسيان، نحو الانفصال عن كلّ شيء، نحو الانطفاء التامّ والسخرية السوداء اللاذعة من أولئك المتطفّلين على النائمين. كفلاديمير، بأسئلته وتساؤلاته حول إمكانيّة الوجود، وحول عبثيّة الوجود، وحول كلّ شيء يتعلّق بالكائن الضّعيف الذي هو الإنسان؛ يحاولُ أستروجين النّوم، يوقظه فلاديمير ويسأل: "لماذا لن تدعني أبدًا أن أنام؟". "شعرت بالوحدة"، يقول فلاديمير، "لقد كنت أحلم أنّي سعيد"، "لا بدّ أنّ ذلك يُمضي الوقت"، "كنت أحلُمُ.."، "لا تخبرني!". يكره فلاديمير الأحلام، يكرهها كرهًا شديدًا ولا يحتملها، ولم يخبر أبدًا لماذا، وأظنّه لأنّه شديد التعلّق والتورّط في مساءلة الواقع عن نفسه ومساءلة نفسه عن الواقع، وربّما لكابوسيّة ذاكرة بيكيت عن الأحلام واللاوعي. ذلك إنسانٌ لا يحتمل الحلم، كما لا يحتمل الضّجر، لذلك هو دائم البحث عن "شيء يعطيه الانطباع بأنّه يوجد دائمًا.. ودائمًا، ودائمًا".

رفيقان آخران للضجر

هؤلاء رفاق الضّجر. وهناك رفيقان آخران. الرجل الأبيض والرجل الأسود عند كورماك مكارثي، في مسرحيّة "الغروب الجزئيّ"، التي تحوّلت إلى فيلم، ما كان لأحد أن يكتبه، سوى مكارثي نفسه. وفي الليلة التي لا أنتظر فيها جودو، أمنح فيها الرّجل الأسود فرصة أخرى معدومة، لإقناعي أنا والبروفسور بجدوى الحياة. إلّا أنّه لم يفلح أبدًا؛ ففي نهاية كلّ مشاهدة، يذهب البروفسور لينتحر، وأقرّر أنا إرجاء الأمر إلى ما بعد. فقد اخترت دائمًا كوب القهوة على الانتحار، وربّما سأفعل ذلك حتى أموت لأسباب طبيعيّة، إن كان هناك شيء كهذا.

أضغط زرّ التشغيل، وأنتظر تلك اللحظة التي يبدآن فيها بالتّحاور، يقول الرّجل الأسود: "إذًا، ماذا سنفعل معك يا بروفسور؟"، وأردّد الكلِمات ذاتها، بالنّبرة ذاتها. ويا لها من متعة حينما وبتلك النبرة الكئيبة، المنطفئة، الميتة، يجيب البروفسور، التي ما كان لغير تومي لي جونز أن يكونه: "لماذا عليك أن تفعل أيّ شيء؟"، "كما قلت.. عندما كنت ذاهبًا إلى عملي في الصّباح، لم تكن جزءًا من خططي، ولكن.. ها أنت ذا"، في إشارة من الرّجل الأسود إلى قفزة البروفسور نحو القطار، والتي قاطعها الرجل الأسود بتلقّيه البروفسور قبل فوات الأوان.. ومع ذلك، يجيب البروفسور: "ذلك لا يعني شيئًا!"، "إذًا، ما المعنى هنا؟"، "لا يعني شيئًا!". لا شيء على الإطلاق يعني أيّ شيء، بالنّسبة لرجل مقتنع أنّه شاهد نهاية العالم مبكّرًا وهو يحترق ويخرج دخانه من مداخن معسكرات الاعتقال النازيّة. قد لا يكون الفيلم فيلم الضّجر الإنسانيّ الحقيقيّ، فهو فيلم عن الجدوى واللاجدوى، الإيمان والإلحاد، ولكن ليس بسبب الضّجر، إنّما لأسباب تتعلّق بعدميّة الحياة نفسها وعدميّة الوجود البشريّ.. إلّا أنّه رفيق آخر محتمل للضجر، لا يثير فيّ شيئًا؛ لا عواطف، لا أسئلة، لا مشاعر، لا قلق في الوجود، كلّ شيء سيقال كما أعرف مسبقًا أنّه سيقال، وفي المرّة القادمة التي أضغط فيها زرّ التشغيل، سيكون كلّ منهما جالسًا في مكانه ينتظرني، أو أنتظرهُم أنا في غرفتي، لنفعل شيئًا، فعلناه نحن الثلاثة مئات المرّات من قبل؛ بدون أيّ مقاطعات من "الرياضيّات الوجوديّة"، الخاصّة بكونديرا وصدفه اللعينة التي لا تؤدّي إلى شيء. إنه ضجر كامل التّكوين!

تلك رفقة الضّجر الحقّة، تلك رفقة غير مزعجة وغير مضجرة. العالم، وربّما هو عالم البعض وليس الكلّ، يشبه كثيرًا هاتين المسرحيّتين. فلاديمير يحاول إقناع أستروجين بجدوى السؤال، وإقناع نفسه أنّ جودو سيأتي؛ لا جودو يأتي، ولا أستروجين يقتنع. والرجل الأسود يحاول إقناع الرجل الأبيض بجدوى العيش، والبروفسور ينتحر ولا يقتنع. في كلّ صباح، أنهض وأنا أقنع نفسي بجدوى العيش، مرغمًا أعيش، مرغمًا أعود إلى النّوم، مرغمًا أستيقظ من النّوم مرّة أخرى. لا جودو يأتي، ولا أنا أقتنع، وعلى الرّغم من هذا كلّه، فأنا مثل هؤلاء الأربعة، سجين نص مكتوب في مكان ما؛ عليّ الاستيقاظ، كما على أستروجين وفلاديمير الانتظار، وعليّ انتظار أشياء كثيرة بدوري.. وفي الانتظار، ليس هناك من هوس رصد احتمالات كثيرة، بل هناك الضّجر وحسب، والضّجر يحبّ الرفقة، كالبؤس.

*كاتب فلسطيني- رام الله

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.