}

العصفورية العربية..

مزن الأتاسي 23 أكتوبر 2018
آراء العصفورية العربية..
لوحة للفنان العراقي بهرام حاجو
 

أستعيد في هذا المقال رواية "العصفورية" لغازي القصيبي، إثر قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده (...) وتداعياتها على السلطات الطاغوتية والشعوب المبتلية بحكامها، ونفاق قادة الدول الكبرى لتمرير المصالح و"الأجندات" و"المؤامرات"، وإلى أن تنجلي حيثيات هذه الجريمة، ومواقف أولئك القادة "المنتخبين" في بلاد الديموقراطية السعيدة، لنترحم على القتيل المعارض الأعزل، وخالص العزاء لأهله، ولأرواحنا نحن الشعوب العزلاء. 

   ليس هذا المقال في رثاء الوزير والسفير المخالف والمختلف عن المؤسسة الرسمية بحدود ما تسمح به ظروفه ومعطيات واقعه السعودي، بل عن روايته الرائعة "العصفورية" التي تحمل دلالات عدة: "العصفورية" هي الفضاء الذي يحتضن الرواية وهو – في اللبنانية المحكية وفي بلاد الشام – مستشفى للمجانين، وهو إذن فضاء محدود ومغلق على أحداثه وساكنيه، والدلالة الثانية أن كل ما يدور في فلك هذا الفضاء ينتمي لأفعال وأقوال المجانين وتفسيرها وتأويلها من قبل أطبائهم، وهذا يجعل الرواية ضمن خطين متناظرين: المجنون وطبيبه، والدلالة الثالثة الناجمة عن هذا الفضاء المحدود والمغلق، ولكن البطن الثري، بما يروى فيه وعنه الأمر الذي يأخذنا إلى جنس "الفانتازيا" ويذكرنا بأسلوب السرد واللغة الفصيحة الرشيقة الذكية بأسلوب الجاحظ وهو يحكي عن بخلائه وطفيلييه، كذلك يذكرنا في موقع ما بطريقة المعري في رسالة غفرانه، حيث السرد "تداع حر" منفلت من أية قواعد من شأنها أن تحدد وجهته التي هي النبش في عمق المحيط العربي وإخراج ما فيه من مشكلات وأمراض سياسية واجتماعية وسوسيولوجية ومعرفية، مع عرض موسع لإشكالية المجتمع والسلطة وجدلية السلطة والمعرفة. تبدأ الرواية بمدخل أو مشهد البروفسور الراوي يسأل عن طبيبه الذي يدخل هادئا واثقا بنفسه حليما كما يجدر بطبيب نفسي، وتنتهي بمخرج أو مشهد يكون فيه الطبيب داخل الغرفة إياها يسأل عن البروفسور الذي اكتشف أنه فر من المستشفى وبقي هو عالق في الغرفة إياها التي أمضى فيها وقتا طويلا يستمع فيه إلى مريضه البروفسور يهلوس ببعض ما علق بذهنه من حكاياته عن زواجه بفراشة ودفّاية وهما امرأتان من عالم الجن، والممرض يبتعد مذعورا وهو يقول: الدكتور ثابت جن الدكتور ثابت جن والدكتور يجلس على الأرض ويطلق ضحكات هستيرية، لقد فرّ المريض "البروفسور" بعد أن أفضى جعبته أفقيا وعموديا على مسامع الطبيب الذي جن ليس لسماعه لحكايا المجنون بل ربما – وهذا رأيي الشخصي – لأنه رأى واقعا وفهم حقائق وأدرك نتائج لم يكن يعرفها، والطبيب في ذلك يشبه بطل "كافكا" في رواية "المحاكمة" الإنسان العادي البريء الذي يجد نفسه متورطا في أزمة كبرى لا علاقة له بها سوى بيروقراطية متوحشة تودي به إلى مصيره الذي يواجهه وحيدا، هذا العالم الكافكاوي الكابوسي ولكن الساخر بمرارة يطالعنا في رواية العصفورية، إنه ينكأ الجراح جميعها في العالم العربستاني، والخليج عربستاني، ثم ينفذ إلى العالم وأزماته، إذ يروي البروفسور روايته عبر استعارته لقناع "المتنبي" أو "أبي المحسد" وتوحده معه، ولهذا ما يبرره، إذ المتنبي الرائي لمشاكل زمانه ومصائبه الشاكي والمتشكي منه ومن ناسه، واضع اليد على مقولتي الغربة والمنفى للإنسان داخل وطنه، وصاحب الحكم الشهيرة في غربة الإنسان في هذا العالم، والقصيبي، إذ يفرش روايته العربستانية على مفرش أرابيسك، إذا جاز القول، وفي مستشفى المجانين حصرا، فإنه يستحضر المتنبي في أشعاره التي تملأ الفضاء مرة للاستشهاد به، وأخرى لمخالفته، وثالثة للمقارنة به، ورابعة للسخرية منه وكأنه يقول: ذاك المتنبي وزمانه، وهذا أنا وزماني هل من فارق تراه أيها العربستاني؟ ولأنه يروي عن العالم العربستاني فقد حفلت اللغة باللهجات العامية التي كانت تأتي في محلها ومقامها بخفة ظل وثقافة موسوعية ليس لمعرفته بها فحسب، بل لتوظيفها البديع فيما سيقت لأجله، ولمساسها بروح الشعب التي ينطق بها، يقول في الصفحة ثلاثين وهو يعبر على "عقدة الخواجة" في أحد تداعياته: هذه العقدة يا حكيم، موجودة في كل مكان. البريطانيون يحبون العطور الفرنسية، والمرأة الفرنسية تحب الرجل الشرقي. وصلنا إلى الجنس. بدأت تبتسم وتشعل سيجارة جديدة. من حسن الحظ أنك لا تدخن السجائر الفرنسية لأن رائحتها تصيبني بالغثيان. على عكس السجائر الأميركية ذات النيكوتين السيكسي والتكنولوجيا المتطورة. شأنها شأن القنابل الذكية. السجائر الأميركية يا دكتور ذكية جدا، بدليل أنها تحذر الناس من أضرارها في أميركا ولا تفعل ذلك في بلاد العالم. لا تجاوب؟ تتغابى "ليس الغبي بسيد في قومه / لكنّ سيد قومه المتغابي"، هكذا يمرر القصيبي ما يريد قوله بمثل خفة الظل هذه وأناقة التمرير وذكائه، وحسه اللغوي العالي بالمفردة وإيحاءاتها، انظروا كيف يتبع الفقرة السابقة بهذه وهو يتطرق فيها إلى مقولات كبرى تستدعي لغة أخرى، أو بالأحرى رطانة الكتابات الملتزمة وتجهم مفرداتها، لكنه يستبدل ذاك بلغة خام على قماشة أصيلة من الفصاحة الجزلة الممتلئة حيوية وسيولة دون الرطانة الكئيبة ومفرداتها الصوتية العالية التي جعلت الآخرين يصفوننا – بحق – بالظاهرة الصوتية، يقول القصيبي في أحد استطراداته أو تداعياته: "موضوعنا إعجاب المرأة الفرنسية بالرجل الشرقي. وهذه مقولة اختبرتها بنفسي. لاحظ دقة التعبير. قلت مقولة ولم أقل نظرية. في عربستان يا حكيم خلط هائل بالمصطلحات فيختلف العربستانيون حتى عندما يتفقون. يخلط العربستانيون بين المقولة والنظرية والقانون. مع أن الفروق شاسعة. يعتقدون أن كل نظرية علمية صحيحة. وهذا هراء غير علمي. المقولة يا حكيم، هي مجرد زعم. كل إنسان يستطيع أن يأتي بمقولة. هناك ملايين المقولات".  رواية العصفورية، ولو أنها تنتمي إلى الروايات الانتقادية، لكنها من الظلم أن تختزل إلى هذا وحده، إنها رواية تقرأ للاستمتاع بمستويات عدة: الأدب ولغته الرفيعة، المتعة القصوى التي تتيحها خفة الظل وحس السخرية، وهي أخيرا صرخة في وادٍ نتمنى ألا يكون بغير ذي زرع. رحم الله القصيبي، لكننا نقول: ما تركته يمكث في الأرض.

 



*كاتبة من سورية

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
14 نوفمبر 2018
يوميات
31 أكتوبر 2018
آراء
23 أكتوبر 2018
يوميات
11 أبريل 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.