}

حكايتي مع المكتبة

مزن الأتاسي 31 أكتوبر 2018

حكايتي مع المكتبة

عصر ذلك النهار الخريفي المرهق، وبعد أن ألقيت النظرة الأخيرة الفرحة على البيت النظيف الملمع، وكل الأشياء التي عادت إلى مكانها بترتيبها المعتاد، تمددت على أريكتي في ركني المعتاد، صحبة ركوة القهوة وفنجاني المعتاد، قمت بالحركتين المعتادتين: تشغيل التلفزيون، واللاب توب . هنا أود الاعتذار منك – قارئي العزيز – عن الامتناع عن وصف ما حلّ بي، أقصد بجملتي العصبية، آن اكتشفت أن الريسيفر معطّل والنت مقطوع، وأن ما تبقى من نهاري وكل ليلي سيكون موحشاً، كوحشة ‘‘الفرزدق‘‘ في ذلك القفر، ولكن من دون حواريته الرائعة مع ‘‘ذئبه‘‘.

لم تأخذ تلك البلبلة والخربطة في المعتاد عليه وقتا طويلا، إذ سرعان ما هدأت.. وتقبلت الأمر الواقع، كما اعتاد السوري أن يفعل في ثماني سنين الحرب، وفكرت: ‘‘ماذا يفعل المرء في مثل حالتي‘‘؟ ارتشفت آخر شفّة من القهوة، وتوجهت إلى غرفة النوم حيث خزانة الثياب والجرّارات والكومودينات قلت لحالي ‘‘بواقعية سياسية‘‘ هي فرصة سانحة لـ ‘‘تعزيلها‘‘ و‘‘ربّ ضارة نافعة‘‘، لكنّ نظري ارتطم بالمكتبة، ويا لروعة المخرج مما كنت أهمّ بعمله ... ‘‘وجدتها .. وجدتها‘‘ صرخت بفرح من وجد ‘‘خارطة طريق‘‘ لحل ‘‘الأزمة السورية‘‘، بل سأعزّل المكتبة، وأعيد ترتيبها.

هي في الأصل مكتبة والدي، وتحتوي على معظم الكتب الأدبية التراثية ودواوين الشعراء الكبار وكتب النقد والمعاجم وتفاسير القرآن، ثم انضمّت إليها لاحقا الكتب الجامعية للإخوة ولي، ولاحقا ما اقتناه كل منا من كتب، أمامي إذن عمل يقضي على وحشة التلفزيون والنت، ليس لليلتي الوحيدة هذه، بل لليال كثيرة قادمة.

فتحت الدرفات الثلاث، ذعرت من الفوضى التي واجهتني: كتب متجاورة، كتب فوق بعضها، كتب مختلطة بكتب، الأصفهاني مع أغانيه، خزانة الأدب، رسالة الغفران، ديوان الحماسة، مذكرات غاندي، أجزاء من مجلة ‘‘المعارف‘‘، أجزاء من مجلة ‘‘المضحك المبكي‘‘، نزولا إلى الرف الثاني ‘‘الحرب والسلم‘‘، ‘‘الأخوة كارامازوف‘‘، ‘‘الدون الهادئ‘‘، كتب في الطب، كتب في الهندسة، تفسير ابن كثير، في إعجاز القرآن، تطور الغزل في الشعر الأندلسي، مجموعة روايات غادة السمان، دواوين نزار قباني، السياب، محمود درويش، أمجد ناصر، تاريخ سورية المعاصر، روايات الهلال، روايات كتابي، سارتر، كولن ويلسون، ماركيز ... كنت أتنقل بين الدرفات والرفوف بسرعة ونزق، ولست أدري كم مضى من الساعات حين انتبهت أنني فرزت معظم ما يتعلق بالشعر من دواوين للشعراء القدامى وصولا إلى شعراء الحداثة.

هذه ليلتي

من النافذة الغربية لغرفة النوم والمكتبة، تسلل مع نسيم خريفي عليل صوت أم كلثوم يغني: هذه ليلتي وحلم حياتي / بين ماض من الزمان وآتِ، ويبدو أنها ليلتي الطويلة أيضا، مع أحلام اندثرت، وأحلام قائمة، وأحلام نسيت بين إطباقة جفن ويقظة، بمجرد وقعت عيني على اسم المتنبي، تلبستني موسيقى فخمة: بحر ووزن وقافية وروي، تناولته وقرأت:

 فؤاد ما تسلّيه المدام              وعمر مثل ما تهب اللئام

ودهر ناسه ناس صغار           وإن كانت لهم جثث ضخام

وما أنا بالعيش فيهم              ولكن معدن الذهب الرغام

حسنا، منذ أن بدأت أعي معاني الكلمات، وأنا أسمع المعاني ذاتها يرددها كل الناس، الحكام عن رعيتهم، والرعية عن حكامهم، مرورا بالناس عن بعضهم، تعال أنت أيها الشاعر الرقيق العاشق الموصوف بالعفوية والشعر عندك ‘‘طبع‘‘، تناولت البحتري وقرأت:

 أما وهواك حلفة ذي اجتهاد      يعدّ الغيّ فيك من الرشاد

لقد أزكى فراقك نار وجدي       وعرّف بين عيني والسهاد

وهجر القرب منها كان أشهى       إلى المشتاق من وصل البعاد

وفي قفزة واحدة إلى موسيقى حديثة، التفعيلة وأجمل من امتلكها محمود درويش ‘‘سرير الغريبة‘‘ ديوانه الشعري الكامل في الحب، وعن الحب، وللحب وقرأت:

كما في الكتابة، يأتي الضروري

في حينه قمراً أنثوياً لملء فراغ

القصيدة. لا تتركيني تماماً، ولا تأخذيني تماماً . ضعي في المكان الصحيح

الزمان الصحيح. فأنت السبيل وأنت الدليلُ

وفي قفزة أكثر حداثة ذهبت لقصيدة النثر مع أمجد ناصر، ولديوانه الذي شكّل فارقا نوعيا في ذائقتي الشعرية: ‘‘حياة كسرد متقطع‘‘، أذكر أنني دهشت أولا ثم تساءلت، ومن ثم وقعت في غرام قصيدة النثر تلك التي اقترحها عليّ الشاعر

أن: أن أوان التغيير الجذري في نظرتك للشعر وتلقيك له وعثورك عليه، وحيث إني أحفظ موقع تلك القصيدة فتحت وقرأت:

راديو قديم:

وأنا أبحث في غرفة الخزين، مثوى الأشياء التي لا تموتُ ولا تحيا، عما تبقى من الكتب التي هجرتُ من أجلها البلد لأرى ما الذي فتنني بها، وجدتهُ هناك. الراديو القديم نفسهُ ماركة فيليبس ذو العين الخضراء التي كانت تشعّ في ليالي الأرق النادرِة لوالدي العسكريّ في سلاح الدروع. صامتا مهلهلا مجردا من عزه كأهم فرد في العائلة، شبكه الناعم المخرم الذي كانت تنسابُ منه العواطف والفتنُ والأكاذيب، مُتَهتكٌ. جلده الأسود الرصينُ مشقق، محطاته القديمة (لندن، واشنطن، برلين، موسكو) التي كانت تحرك أعراقَ الشرق واضطراباتِه بألسنة طويلة، هاجعةٌ كأضرحة تذكارية تحت الغبار. إبرتُهُ التي طالما نهَرنا والدي عن تحريكها بتهور كي لا تفلت في المدار الأثيري للكون متوقفةٌ عند إذاعة دمشق، التي لا يسمعها أهلي سوى للتمتع بالصوت الطفوليّ الملتاع للشيخ توفيق المنجد في رمضان.

......................

لم أجد أيّا من كتبي السرية التي تخلص أهلي منها فور رحيلي، فما حاجتهم في المفرق إلى ‘‘الإيديولوجيا الألمانية‘‘ أو ‘‘ما العمل‘‘، لكنني وجدت مراهقتي المكبوتة لابدةً هناك، تقتات على أحلام اليقظة الضارية، فالأصوات البابلية راحت تنثال مستعيدةً حياة لم تعش إلا في الأغاني.

وماذا يمكن أن أقرأ في كتاب ‘‘ريلكه‘‘ الأعمال الشعرية الكاملة المكتوبة بالفرنسية مباشرة، بترجمة وتقديم ‘‘شاكر لعيبي‘‘؟ فتحت الكتاب عشوائيا وقرأت قصائد نثر:

فارفاليتينا

باضطراب تصل نحو المصباح، ويمنحها دوارها مهلة ملتبسة أخيرة قبل أن تحترق. لقد خفقت على السجادة الخضراء للطاولة، وعلى هذه الخلفية المميزة تمتد للحظة (لفترة لها هي ولا نستطيع نحن قياسها) فخامة روعتها فائقة الوصف. تكاد تكون بحجمها الضئيل سيدة وجدت صعوبة في الوصول إلى المسرح لنظارة جد هزيلين؟ .. أجنحتها التي نلمح منها عودين دقيقين من الذهب يخفقان مثل مروحتين مزدوجتين أمام اللاشكل، وفيما بينهما، هذا الجسد النحيل، البطاقة الهشة حيث تنسدل عينان على هيئة كرتين من الزمرد...

منك، يا جميلتي، اغترف الله غرفا. يطلقك في اللهب لكي يسترجع قليلا من قواه. (مثل طفل يكسر مسطرته).

 

هل من تعليق ؟ هذا سؤال مؤجل في هذه العجالة الملتبسة المزاج، المتسارعة للقبض على حياة فرّت من بين الأصابع كالرمال.  

 

 

 

 

 

 

 

 

كل الفوضى الموجودة في رفوف المكتبة المكتظة بساكنيها انتقلت إلي، ووجدتني أسبح بمتناقضات المشاعر والأفكار: أصحيح أن كل أنواع المعارف التي تحتويها هذه الكتب قرأناها وانتقلت إلى عقولنا؟ أصحيح أن فينا فكرا من كل المؤلفين لهذه الكتب؟ وأنها صنعت طريقة لحياتنا؟ وإلى أي حد تأثرت حيواتنا بالشخصيات والحبيبات التي حفلت بها الروايات وقصائد الشعر؟ كانت الأفكار، الأرواح، الأمزجة، الفلسفات، التفاسير، الشروح، الهوامش، المذكرات، الذكريات، أشباح الأيادي التي فتحت صفحاتها تعبر أمامي بشريط استعادي في أماسي الفصول حين كانت الأسرة تجتمع حول المدفأة، أو على الشرفة، أو حتى في سيارين الربيع. مرّ الوقت سريعا وأنا أبحث عن أسرتي ونفسي وحياتي في المكتبة، وبين الكتب، وفي الأوراق التي وجدتها بين طياتها، والملاحظات التي توقفت عندها، والهوامش المكتوب إلى جانبها: مهم جدا، هذا خط أبي، وذاك خط أخي، آآآآآآ وهذا خطي أنا، تذكرت النقاشات المحتدمة بيننا التي كانت تفض غالبا باختراع الحجج للذهاب كل إلى وجهته. جلست على الأرض وألقيت نظرة على الكتب التي تكدست حولي: كم كانت الحرية متاحة في هذا البيت حتى احتوت المكتبة على هذه العناوين المتناقضة في توجهاتها المعرفية ؟ لم يمنع أحد أحدا من اقتناء ما يرغب فيه، رغم الاختلاف الكبير في الآراء، وهذا يفسر دواوين نزار قباني الشاعر المحدث المتمرد إلى جانب ‘‘أبي تمام‘‘، وكولن ويلسون إلى جانب ‘‘المنفلوطي‘‘، لم يصادر أحد أحدا مزاجه ولا حريته المطلقة في تبني ما شاء من الأفكار، كان اكتشافا باهرا سبب هذا الغنى والتنوع: القاسم المشترك بيننا كان محبتنا للقراءة واقتناء الكتب، والباقي تفاصيل كتبتها الحياة في قدر كل منا. في غمرة كل هذا عثرت على كتبي الثلاثة التي كنت قد يئست من العثور عليها وافترضت الاحتمال المعتاد: من أعرته الكتب لم يعدها، سحبت الكتب وكانت بالترتيب التالي: الجواشن قاسم حداد أمين صالح، سداسية الأيام الستة: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل إميل حبيبي، الوصول إلى مدينة أين سركون بولص.. وهل بعد هذا من لحظة سعادة وفرح عطاء خالصا كريما نبيلا من المكتبة؟

 

 

 

 

 

 

 

                                                                                                                     

 

                                                                                                                     

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
14 نوفمبر 2018
يوميات
31 أكتوبر 2018
آراء
23 أكتوبر 2018
يوميات
11 أبريل 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.