}

تلك كانت لقيتي

مزن الأتاسي 29 نوفمبر 2017
آراء تلك كانت لقيتي
لوحة للفنان اللبناني حسين ماضي

 خلال السنين السبع المنصرمة، لم أستطع رفد مكتبتي بجديد كما اعتدت أن أفعل، ولأن  ما حدث في البلاد  منعنا من التسوق الاعتيادي – كما عشنا طوال أعمارنا، فما بالك بشراء الكتب؟ تلك الرفاهية التي كانت في الأساس صعبة المنال، فكيف وقد أصبح دونها خرط القتاد والقذائف العشوائية التي من الممكن ان تودي بحياة المرء وهو خارج من المكتبة، فرِحاً باقتناء كتاب! ولسد هذا النقص الممض، ترجمت فعلياً المثل الشائع في بلادنا "حين يفلس المرء يعود لدفاتره القديمة" ، فصرت أنبش في مكتبتي على أمل أن أجد كتاباً هناك في الزاوية، أو في الصف الثاني من الرف، أو تحت تلك الرزمة فاتتني قراءته، وفي إحدى جولاتي وقعت على عنوان ذهبيّ فوق مجلّد كحليّ، العنوان يمشي هكذا: كتاب، وتحت هذه المفردة: الأزمنة والأمكنة لمؤلفه: الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني. 

  يا للعنوان الحداثي! شيخ توفي سنة 421 هجرية، يؤلّف كتاباً - بحسب الذي ضبطه وخرّج آياته الأستاذ خليل المنصور - ومصنّفاً - بحسب مقدمة الشيخ - يتحدث عن أهم مسألة وجودية منذ الأزل، وإلى الأبد - جدلية الزمان والمكان -  في خمسمائة وست وخمسين صفحة، وكقارئة متمرسة ركضت إلى مقدمة المؤلف ، يقول: "هذا كتاب الأزمنة والأمكنة، وبيان ما يختلف من أحوالها ويتفق من أسمائها، وصفاتها، وأطرافها، وإقطاعها، ومتعلقات الكواكب منها في صعودها وهبوطها وطلوعها وغروبها، وجميع ما يأخذ أخذها، أو يعد معها.."  يبتدئ الكتاب بذكر أبواب الأزمنة والأمكنة وفصولها وفيه يبين الشيخ طريقته في التأليف وقصده منه، فنعرف أنه قسّم كتابه إلى ثلاثة وستين باباً، ونيف وتسعين فصلاً حسب تسلسل الحروف الأبجدية، مبتدئا بذكر الآية المنهية من القرآن، ثم في ذكر أسماء الزمان والمكان، ومتى تسمى ظروفا، ومعنى قول النحويين الزمان ظرف الأفعال( ولأول مرة أفهم معنى ظرف زمان لأنني كنت قد حفظته صُماً)، ويمضي بتعداد عناوين فصوله وأبوابها وأنا في حيرة من أمري، إذ ما علاقة أوقات التهجد في الحديث عن الأزمنة والأمكنة، أو ذكر الأعياد والأشهر الحرم والصلوات الوسطى، وبعد أن كاد يخيب أملي، وقع نظري على عنوان ذهبي آخر: فصل في ماهيّة الزمان، وهنا حطني الجمّال وبدأت ألتهم السطور. بعد أن يستعرض الشيخ قول أفلاطون في الزمان وقول غيره ( هكذا..) يكتب: قال الخليل: "الوقت مقدار من الزمان وكل شيء قدرت له حينا فهو موقّت، وكذلك ما قدّرت له غاية فهو موقّت، والميقات مصير الوقت"، ويورد آيات من القرآن تتحدث عن الوقت والميقات ليثبت نظريته، وأما درة ما أورده في ماهية الزمان فهو ما "حكى حنين بن اسحق عن الإسكندر أنه قال في حد الزمان: إنه مدة بعدها حركة الفلك بالمتقدم والمتأخر. قال والعدد على ضربين: عدد يعد غيره وهو ما في النفس، وعدد يعد بغيره، والزمان مما يعد بغيره وهو الحركة لأنه على حسبها وهيئتها وكثرتها وثباتها، وإنما صار عددا من أجل الأول والآخر، الموجودين في الحركة، والعدد فيه أول وآخر، فإذا توهمنا الحركة توهمنا الزمان، وإذا توهمنا الزمان توهمنا الحركة.." ويختم هذا الفصل بالرد على الملاحدة بان القديم واحد، وأن المحدثات لا بد لها من محدث وهو الله تعالى، وهذا من أهم مقاصد الشيخ في تبيانه للناس. أما بقية أبواب الكتاب وفصوله فهي لا تقل جمالا ولا فائدة من هذا الفصل، ومن أجمل أبواب الكتاب  الباب السادس وهو في ذكر الأنواء، واختلاف العرب فيها( هل اختلفنا في الأنواء أيضا!) ومنازل القمر، مقسمة الفصول على السنة وأعداد كواكبها وتصوير مآخذها ضارة ونافعة، والباب التاسع والعشرون وهو في ذكر الرياح الأربع وتحديد مهابّها وما عدل عنها، والباب الثلاثون في أسماء المطر وصفاته وأجناسه وهو فصلان، وهو أيضا ما يحلو لي أن أختم ببعض ما جاء فيه من أسماء المطر العزيز على قلوبنا – نحن العرب – الذين ما زلنا في القرن الواحد والعشرين نترحّل طلبا للماء والكلأ:

"أول المطرالوسميّ ، ثم الشتويّ، ثم الصرفة، الخرساء، الحميم، القطط وهو أصغر المطر، والرذاذ فوق القطط، الحشفة والغبية، والديمة، ومن الديمة الرهمة، والدجن وهو المطر الكثير و.. الجود من المطر الكثير العام وهو في كل زمان...". فهل تمطر دجناً في الشتاء القادم الذي يطرق الأبواب فيغسل تجهم زماننا.. وينبت زرعا في خرائب مكاننا؟

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
14 نوفمبر 2018
يوميات
31 أكتوبر 2018
آراء
23 أكتوبر 2018
يوميات
11 أبريل 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.