}

منتجع السّحرة

قص منتجع السّحرة
لوحة لارماندو

لم أدخل في سنّ التّقاعد؛ الوقت ما يزال مبكّراً لكنّ بطاقة دعوة إلى منتجع السّحرة وصلتني؛ لأخذ قسط من الصّمت الجميل. حقيقة دنوّ الخريف شجّعني إلى المضيّ قدماً في ذلك؛ إذ تكثر أعمالي الكريهة في هذه الأشهر أعني الكلام بلا طائل عن الحزن ومشتقاته؛ ثمّة قناعة متينة لدى هؤلاء، هي: بثّي (طردي؛ لأكون أكثر دقّة) يخفّف من عتمة الحال. أفٍ منهم! النّاس تتحدث عن أشياء كثيرة يثقل عليّ نقلها بالشّحوب ذاته، مثل: عودة المدارس، والطّباشير إلى العمل ويا لرتابة الشّكوى، وتأمين مخصّصات الشّتاء من مؤونة، ووقود، وانتكاسات عاطفيّة. أعلم أنّ عليّ احترام هموم الآخرين لكنّ الثّرثرة طفحت عن حدّها. هذا ما جعلني أحزم أمتعتي؛ تلك التي لا تزيد عن مجازات أحبّها ارتديتها أقنعة في الفنّ.  

وصلت إلى منتجع السّحرة؛ كانت لافتته ضخمة بأحرف كبيرة؛ قال لي حارس البوّابة: كي يُبصرها الكلام الأعمى! ما من حاجة لأخفي دهشتي من ذهاب الكلام إلى منتجع للسّحرة! حسناً، أفهم من كلمة منتجع أنّه مكانٌ مخصّص للاستمتاع بالكفّ عن الكلام. لابدّ أن أخبركم أنّ في المنتجع حسب خيالاتي هناك جماليات قبح بودلير: شجر وارف وحجر اسمنتيّ، وبحر يشاركك الامتداد في الخلود، وحوض سباحة لأفكارك وحدك، ووجبة دسمة تلتهمها على عجل مع كلام لم تلتقيه من قبل، وصيام عن العالم خارج تلك الجدران الكاتمة للأصوات الباحثة عنّا. أمّا السّحرة فأستغرب هذا التّصنيف. هل سيجلس إلى جواري تحت النّجوم النّافرة في السّماء بينما النّار تتوهج كالأغنيات السّاحر الذي يُخرج أرنباً من قبعته؟ هذا مضحك!  التقطت الإجابة من كلام عجوز، تظهر عليه أمارات زهد يمسح فراء هرّة شاردة سمينة: إنّ من البيان لسحرا.

تجوّلت في المكان، كان هناك عدد مهول من الكلام الذي هَجَر أصحابه وبعضهم مثلي تَركه بعض الوقت؛ لأنّه تَعِبٌ قليلاً. إنّنا هنا عراة تماماً من التّأويل؛ نخلع المعنى، والاستعارات، والأخيلة في غرفنا المطلّة على سماء بيضاء تُثير نزعة الامتلاء. لقد تبادلت الإشارات المُفرغة من الملامح المتفق عليها ما وراء أسوار المنتجع مع عدد لا بأس به في الرّدهة المخصّصة للصّمت الجماعي؛ إنّنا نكون فيها كحالة كونيّة عامّة. التقيت هنا بكلام بذيء، وآخر بربطة عنق، وكلمات رقّتها كالحنان، وأخرى بأسنّة رماح، وكلم متصوّف، وكليمات نهمة للحياة ... ما أوسع الحدود بيننا!

بدا هذا مملّاً لاسيّما أنّني هربت من حالة التّأمل الخريفيّة إلى هنا؛ إذ لا أريد أن أكون كلاماً واعظاً في قصيدة عن الموت!  كان ذلك حتّى شاهدت كلاماً يركض صوب الماء الرّاكد وآخر يطارده بلهاث مسموع: أيّها السّارق! فيجيبه بحنكة موروثة: " المعاني مطروحة على الطّرقات". اعتقدت بأنّنا متشابهون إذ نخلع أرديتنا لكن الأمر ليس كذلك. توغّل ذاك السّارق بعيداً في البحر المخصّص للخلود فتبدّد؛ فالماء يعيدنا سيرتنا الأولى لكنّه سيحيا، هذا ما كنت مؤمناً به. لحظة قولي هذا، التفتّ إليّ الكلام الحانق موجّهاً أصابع الاتّهام الخانقة: لماذا كنت محايداً؟ جحظت عيونه، وزمّ شفتيه. لابد أنّ أعترف منظره لا يُبشّر بحتف على مقاس أحلامي. سحبني من يديّ بعنف واضح محاولاً وضعي عنوة في قبعة ساحر مهجورة بتهمة الصّمت، قائلاً: لا البحر أو حوض السّباحة بحاجة إلى أرنب مثلك!   

 

مقالات اخرى للكاتب

سير
16 يوليه 2021
شعر
7 يونيو 2021
شعر
13 يوليه 2020
شعر
14 أبريل 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.