}

أن تقول وداعاً

نائل بلعاوي 24 يونيو 2018
سير أن تقول وداعاً
لوحة للفنان العراقي علي رشيد
لا أعود بكثرة إلى سالزبورغ، ثمة ما يجرحني هناك ولا أرغب باستعادته أو استحضاره من جديد ولا التحديق في وجهه.. وجه الموت.

كنت في أوقات سابقة، تبدو بعيدة اليوم، أحب المدينة الصغيرة والخلابة تلك وأرجع بفرح صارخ إليها.. كنت أذوب بهجة واستمتاعاً باقتراحاتها وصفاتها ومآثرها الباذخة ولا أكف عن الذهاب فيها ..

هي مدينة حالمة، حالمة ووديعة .. خضراء في الصيف والربيع. بيضاء في الشتاء وغامضة موحية في الخريف.. وصغيرة: جبال متنوعة الأحجام تلتف من حول بحيرات عديدة تجاورها. حدائق أنيقة ونهر يسير من تحت جسور خشبية عتيقة، وأخرى حديدية يزدان أحدها بأقفال لا تعد للحب والذكريات. وبيوت على ضفتي النهر تشكل قلب المدينة الفاتن، ثم موزارت..

سالزبورغ هي موزارت، روح العبقري الفريد تمنح المكان خصوصية بلا شبيه وتجعله علامة فارقة تدل عليه، على الإيقاع الملهم والنوتات الحاذقة، على الشاب الحالم والمغامر الذي غادر المدينة ليموت غريباً وعاشقاً في فيينا، ويدفن في قبر مجهول.

ولكن سالزبورغ ليست مدينة موزارت وحده، فحسب. حملت هويته ودلت عليه. حمل هو تاريخها واسمها وطار بهما في أنحاء الكون، صحيح. ولكن كل هذا وذاك لا يُسقط عن المدينة سحرها الثاني والبديع: جورج تراكل.

مدينة تراكل هي أيضاً وأيضاً، الشاعر الذي ولد في بيت لا يبعد كثيراً عن زقاق الحبوب الذي يحتضن بيت موزارت. الشاعر الفذ والمسكون بغوايات الحب والبحث الكئيب عن الأنا في مجاهل الوجود.. والشاعر المغامر، كما جاره موزارت، ومثل جاره، سوف يموت تراكل ولكن انتحاراً هذه المرة، في مدينة بعيدة / كراكاو البولندية / ثم تعود رفاته بعد وقت طويل، على العكس من موزارت، لتدفن في مقبرة قريبة من بيته الأول.

روح الموسيقي الاستثنائي إلى جانب روح الشاعر الحزين في نقطة التقاء واحدة يتشكل عبرها العمران وفنون إبداع الأمكنة .. فنون الفرادة التي أخذت غوته، أخذت شيلر وارثر رامبو وهنري ميلر وريلكه وسيلان، وغيرهم وغيرهم إليها. ليكونوا، ربما، على مقربة من شيء ما، يُلهم ويمنح النفس ما تود أن تكون عليه؟

سالزبورغ هي كل ذاك.. وهي ماريا، سالزبورغ هي ماريا.

حين همست في أذنها، ونحن نسير ببطء مثير في زقاق فييناوي عتيق صيف العام 1994.. في يوم ما من ذلك الصيف: سالزبورغ..؟

قفزت ماريا مثل فراشة لمحت ضوء مصباح في البعيد، وصاحت: موزارت، لنسافرهذه الليلة أو غداً صباحاً إليها. أريد أن أحبك هناك.

وسافرنا في الصباح التالي، هي، بثوب صيفي خفيف يكشف الكثير من مفاتن جسمها.. وأنا، محض عاشق يسير في ظل وردة شهية إلى مدينة يحب، إلى ذكريات عذبة سابقة.. وإلى صناعة ذكريات جديدة مع فتاة لا تشبه غيرها ألقاً ولذة.

ماريا هي اللذة حين تأخذ شكل فتاة شرقية بملامح أوروبية ناعمة وجاذبة .. روح البحر والصحراء وهي تمتزج بأرواح الأنهار والجبال والطبيعة الساحرة للقارة العجوز، ليصعدا معاً نحو تشكل آسر وفريد تراه في عيون ماريا، في شعرها وصدرها وفي التدفق البديع للأنوثة التي لم تغادر مربع طفولتها الأول، ولكنها اكتملت وصارت غواية.. صارت سيدة مسكونة بالحب، بالكثير من الحب والكثير اللافت من المجون.

في القطار، وهي تجلس بارتخاء مثير أمامي، أقول لها: وكأن رومي شنايدر هي أختك الكبرى..

فلا تجيب، بل تقفز بخفة إلى النافذة وتمد رأسها إلى الريح ثم تعيده لتعصفني بنظرة مزلزلة وتقول: خذني هنا ..

فأفعل، لم أفكر لحظة بمفتش التذاكر أن جاء حجرتنا الصغيرة ليختمها. لم أفكر براكب قد يدخل للسؤال عن شيء ما، ولم أفكر بالكون.. كانت ماريا هي الكون وهي نهايته، فأخذتها باشتهاء غريزي مطلق آلي.

لماذا على هذا القطار أن يصل، قالت، وهي تعيد ترتيب شعرها الذي بعثرته أصابعي خلال ساعة الحب قرب النافذة..

لماذا فعلا؟

ولكن القطار وصل وأعادت ماريا تكرار مجونها مرات في سالزبورغ: أحدثها عن تاريخ المدينة في المقهى فتمد ساقها إلى ما بين فخذي وتهمس: قبلني الآن.

تتأخر عاملة الاستقبال في الفندق قليلاً وهي تعد أوراقنا فتقول لها، بإنجليزية تشبه الشعر: أسرعي قليلاً، نحن في حالة هياج حيواني ونريد أن نمارس الجنس.

فتضحك الموظفة الشابة وتجيب: لم أسمع مثل هذا المبرر الجميل أبداً. ولكنها لا تسرع بل تواصل الضحك اللطيف. وتواصل ماريا الكلام والقبل، تواصل، وعلى امتداد أسبوع كامل، لذة الكشف الجنوني عن ينابيع سحرها.. تلك الحالمة الهادئة حين ترغب. الصاخبة حين تغوي. اللعوب مثل شابة هاربة من المدرسة لتقابل عشيقها الأول. والنزقة حد الإدهاش وهي ترقص في الشوارع والساحات. المتدفقة ولا تُرد وهي تمارس الجنس، والشاعرة المدهشة وهي تصف ما تراه، وعاشقة..

ماريا عاشقة، تلك هي الصفة الأعلى والأدق لوصف حضورها الأرضي ذاك .. عاشقة لا تقبل بأنصاف الحلول ولا تعترف بالإيحاءات والإشارات والرموز أو البدايات التي قد لا تكتمل وتسعى على الدوام لاقتناص كل شيء .. في الحياة والحب. في الرقص والسفر وفي اللحظات الاستثنائية للالتحام الجسدي الخالص، قرب نافذة القطار أو في معبد روماني قديم.

في ظل ماريا، في الإغواء الأعلى الذي تمثله وتحيل عليه، تكتشف المسرة، تتراءى لك اللذات على هيئة فتاة جميلة يتناغم الحسي والروحي فيها ولا يتناقضان للحظة واحدة، وكأنها وجدت لتمنح ذلك التناغم الفذ معانيه الأخيرة..

هي وجدت لذلك، ولعلها رحلت فجأة لتكمل في فضاء ما .. في مكان ما، تلك المهمة الآسرة؟

بعد أسابيع قليلة على الرحلة الجنونية إلى سالزبورغ، وكانت ماريا قد عادت إلى الصحراء حيث تسكن، سوف تصلني مكالمة ليلة تخبرني بأن ماريا قد تعرضت لحادث مروري عنيف .. وماتت ..!

كيف يمكن لواحدة مثلها أن تموت .. هكذا وببساطة تذوي ..!

وكيف لي أن أصدق غيابها، وكيف يمكن لقوانين الأرض والسماء ارتكاب خطيئة فادحة مثل تلك .. وكيف لم أحدس وقتها، وأنا أضمها لأودعها في المطار بأن النهاية قد اكتملت في القبلة الطويلة والأخيرة هناك..

سأرجع قريباً، قالت ملوحة بيد ترتجف

سأنتظر، أجبت.

ولم ترجع، ولكني انتظرت، انتظرت لوقت طال، طال ولم أكف عن الذهاب عبره في فانتازيا الرحيل والرجوع واستجداء اللاممكن، أو المستحيل. ولم أرجع خلاله إلى سالزبورغ إلا مرغماً.. فالمدينة الفاتنة تلك هي ماريا، هي انعكاسها وجدواها، هي روحها التي تركت شيئاً ثميناً من مفاتنها فيها، وغابت. فكيف يمكن الرجوع إلى حيث الإشارة تدمي والدلالة تجرح!

لم أرجع بكثرة إلى سالزبورغ، ولن أفعل، وإن فعلتها وعدت، فمن أجل غاية واحدة، أن أقول  لماريا، وقد تسمع: هنا، حيث الأمكنة اكتست مرة ولا تزال بسحرك اللانهائي. هنا، حيث ظلك الشفيف يبقى ولا يزول، يبقى ويختزل المسرات جميعها، أقول .. أتلعثم مثل صبي شقي وأقول: وداعاً.

أقول وداعاً وأعرف أن الموت هو أن تقول وداعاً.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

سير
24 يونيو 2018
أمكنة
28 نوفمبر 2017
أمكنة
19 أكتوبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.