}

بعيون المقدسية وروحها

نائل بلعاوي 19 أكتوبر 2017

قالت:

تشبه الفكرة أكثر. تشبه دفقة مدوية وغامضة، من ذلك الطراز الذي تُولد إثره القصائد واللوحات.. وربما الأساطير أيضاً.

هي أقرب للروحي الخفي من هذا المرئي الواضح والصريح. تراها وتسير في أزقتها المتعبة أو ساحاتها الحجرية، تأكل في مطاعهما أو تشتري شيئاً من حوانيتها الصغيرة التي تبيع التاريخ والذكريات والأحلام على شكل قلائد يدوية بديعة أو منحوتات خشبية مطرزة بالرغبات والمواجع. وقد تذهب إن أحببت للصلاة في بيوت الله الكثيرة فيها. كل هذا صحيح، ولكنك لا تكون حينها، في تلك اللحظات ذاتها، إلا في رحم اشتباك أخّاذ وغير مفسّر بما هو غير مرئي أو خاضع لمنطق يحدده أو يفكك الأثر البليغ لسطوته اللانهائية والمطلقة.

اللامرئي هو الأعلى هناك، وأنت في حضرته تماماً. أسيره وتابعه، وعليك أن تدرك حقيقة أن ما تراه هو الانعكاس اللحظي لما لا ترى، هو الصدى البليغ لفكرة الآلهة عن الأمكنة. هو ظلها وخيارها الفريد، ملاذها الأخير..

وكأن تلك الآلهة المفتونة بالسحر والوجد قد اجتمعت على تشييد حاضرة تأوي حين ترغب بالسكينة والتأمل العبقري إليها، فشيّدتها.

في القدس، يجردك المكان منك، من الهوية والذاكرة، مما انتظرت وتنتظر، وقد يخلع عنك رؤاك التي حملت وبها أتيت، فأنت لا تجيء إلى مدينة شهيرة لتزور معالمها وتجس عمرانها أو تسهر في ليلها، ثم ترجع. لا، فحين تدلفها وتذهب بعيداً فيها: لا تكون أنت أنت.. لست ذاك الذي جاء زائراً ولا رؤاك هي رؤاك. ولا هوية محددة تسطو عليك وتؤطرك، ولا ذاكرة تقودك أو تقترح. فأنت ملك الخارجي البعيد، والبعيد يجردك ويمنحك صفات ما فوق أرضية، هو يرفعك ويسقط عنك كل ما كنته قبل أن تصل، بل يحررك من الهواجس والخطايا والأهواء ويردك دفعة واحدة إلى حيث عليك أن تكون.

في القدس، أنت المجرد، سليل آلهة تحب وتبني عمرانها الأنيق هذا، ولست محض داخل لقلب مدينة أنيقة تتصارع من حولها الروايات والأحلام والأوهام والكتب التي اخترعت مقدّسها وسنّته على هواها النرجسي. فهي ملك آلهة محبة وعاشقة، شفيفة وناعمة، وليست لقيطة عند تلك {الآلهة} اللئيمة الشرسة.. تلك التي تريدها لها وحدها، وتريدها على صورتها هي لا غير!؟

والقدس محتلة.. المدينة المتفردة والفريدة، محتلة. أوقعتها المصائب والكوارث والصدف في براثن احتلال يحاول إخراجها عن سياقها الجمالي الأثير.. يحاول، ينجح مرات ويخفق أخرى، ولكنه هنا، فيها، يلوث السياق ويعتدي على الرمز والمجاز، يحاول تفريغ الرمز من معانيه العميقة. يحاول إسقاط المشتهى عن المجاز.. ولكنه لا يُوفق ولن يستطيع، فمثل هذا المكان الذي أعدّته آلهة جميلة كمخدع لها، لا يذوب في قباحة الأرضي وقسوته ولا يذوي أبداً.

ثم تصمت المقدسية قليلا، لا لكي تستريح أو تبحث عن صفات جديدة لمدينتها الاستثنائية تلك، بل لأن دمعاً حارقاً راح يتساقط عن وجنتيها فجأة. فحين تحكي المقدسية عن قدسها، تبكي أحياناً، تتنهد طويلاً، ثم تواصل سرد روحها التي امتزجت بالمكان إلى تلك الحدود العذبة والبليغة. وأواصل أنا الاستماع بلذة لا مثيل لها.. أستمع، أسأل وأكرر الأسئلة، ثم أطير، وكأن أجنحة خرافية تحملني إلى حيث هي الآن، إلى مدينتها. فأسير بقربها، أرى ما تراه، وألتقط  تحت تأثير غريب ما تحس به هناك..

وكأني هي، وكأنها أنا. وكأن قوة لا تفسر غير الأساطير سحرها قد أذابت المسافات وشروط الجغرافيا كلها، فأخذتني دفعة واحدة إلى القدس.. القدس التي وددت لو أني سرت فيها مرة واشتبكت بروحها كما رغبت. المدينة التي لم أزر ولم أعرف عن قرب..

وها أنا ذا أزور وأعرف، أرى الأزقة والبيوت القديمة. أستمع للغات هجينة وأخرى أليفة، وأشم الفضاء الذي سار من تحته الأنبياء والشعراء، فأعثر بدهشة طفولية غامضة على شيء خفي من أناي؟

بعيون المقدسية وبروحها المشتبكة حد الفتنة بالمكان، أزور القدس، أعرفها مثل مدينة عرفتها وتصعلكت طويلاً فيها، وكأني كنت فعلاً هناك، في ضجيج الاستعارات والدلالات والشهوات جميعها، بل أستطيع أن أكتب الآن بلا حذر أو اتكاء أثير على ما يسمح به المجاز: كنت فعلاً في القدس..

كنت في القدس، لا بذلك القدر الذي تمنحه الكتب والصور أو الأفلام على أنواعها، ولا بذلك الوله الذي تخلّفه القصص والروايات الحزينة، بل لأن طاقة روحية أخّاذة قد حملتني إليها، لأن المقدسية التي عرفت المدينة بعيونها وحواسها تبكي في كل مرة تستدعيها وتسرد سيرتها..

تبكي، وتكرر بلهفة كأنها الأولى:

في القدس، يجردك المكان من أناك.

  

 

مقالات اخرى للكاتب

سير
24 يونيو 2018
أمكنة
28 نوفمبر 2017
أمكنة
19 أكتوبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.