}

الباب

قص الباب
لوحة للفنان السوري سمعان خوام

إنّها الحرب

تتصدّر عناوين الأخبارِ مشاهدٌ ناتجة عن نزوة دكتاتورٍ في محاصصة دكتاتور آخر، ومن ثمّ يشابه الأمر لعبة أطفال مزوّدين بأسلحة فتّاكة يقتتلون على من دعس ظلّ الآخر أوّلا.

وَمِن عَبَثِ تلك الحرب أن رفّ المعلّبات في دكّاننا قد فرغ تماماً، وكذلك أكياس الرّزّ والطّحين والسكّر.

أمام صدّام شهر حتّى يرتجع عن احتلالِ الكويت. وشهرٌ حتّى تجهّز غرفة مؤطّمةً (مُحكمة الإغلاق) تلصق زجاجها وتحكم إغلاقها خوفا من غاز باسمٍ لذيذ وسمعةٍ سيّئة.

علينا اختيار غرفةٍ من غرف منزلنا لنختبئ بها، طبعا ليس لدينا ملجأ، وليس هناك ملجأ عمومي على مسيرة نصف ساعة بالسّيارة، تفحّصٌ سريعٌ للغُرف يكشف صورةً غير محفّزة.

غرفة المعيشة التّي هي غرفة نوم الأهل، بشبّاكين وخزائن الفراش والملابس، صغيرة ولا تتّسع للعائلة، غرفة الضيوف كبيرة بما يكفي ولكنها بمصاريع متآكلة وناقصة، تكفي لإدخال فيل صغير أو قذيفة على الأقلّ دون أن تكسر ما وجد منه.

غرفة نوم الأولاد بشبّاكٍ واحد، ولكنّ بابها عندما يقفل يترك فراغًا يسمح بدخولي منه دون الحاجة لفتحه كما أنّ لها بابا إضافيا هو عبارة عن شبكة حديديّة تطل على مخزنٍ به فتْحات إضافيّةٌ هيَ أيضا شبكات حديديّة لا تمنع دخول الغازات من الخارج، بقي المطبخ الذي هُدم حائطه الخارجيّ وأضيفت إليه الساحة كمقطع إضافيّ من مساحته، ومن فوائد المطبخ أن الطعام كلّه مخزّنٌ هناك، ولكن هناك شقٌّ بين المقطع الجديد والقديم يسمح لك بمشاهدة سربٍ من النجوم في السماء.

يبدو أنّ غرفة المعيشة هي الأكثر إحكاما، ولكنّنا نسينا الباب، ذلك الباب اللعين الذي يختبئ خلف الخزانة دون أن تراه، يُمكنك أن ترى الباب من غرفة الضيوف، عبثًا حاولتُ فتحه أو استراق السمع لما يحدث خلفه، ولكنّه لا يفتح بتاتا ولا يسمح بأيّ صوتٍ أن يخرج عبره، تعيش حياةً كاملةً وأنتَ ترى ذلك الباب مقفلا مستترا، تراه ولا تراه وتتعامل معه كأنّه غير موجود، تماما كأصوات السّيارات في الشارع الرئيسيّ جانب المنزل التي تصيب ضيوفنا بالجّنون ونحن نبتسم ابتسامةً بلهاء نحاول أن نفهم عن أيّ أصواتٍ يتحدّثون.

فلنعد إلى المطْبخ إذًا، فمنْ مفارقات الحرب أنّك تجوع تماما وقت سماع صفارة الإنذار، كأنّك تخاف أن تموت بمعدة فارغة. يبدو أنّ ما يهم في الحرب هو ألّا تموت وحيدا، "وإذا لمن يكن من الموت بدٌّ" ... فمن العزاء أن تموت مع من تحبّ.

أحْمِل معي وَجْبة دَسمةً من كتيّبات سميّت حينها "ألغاز" أغلبها من تأليف الدكتور نبيل فاروق، أبطالها شخصيات مصرية وهميّة تحوّل مصر إلى دولة عظمى وتجعلك تدركْ جيّدا عندما تكبر ماذا تعني أن تكون القصّة خيالية لا تمتّ للواقع بصلة.

أفكّر في ذلك الباب اللعين الذي لن يوصلك من أيّ مكان إلى أيّ مكان، وأتخيّل كيف سأزيل الخزانة التي تمنع حراكه وأكتشف كونه بابا سحريا، إنّه باب التقمصّ، تدخل من الصالون بجسدك، لتخرج من الجّهة الأخرى بجسدِ شخصٍ آخر لا تختاره أنت، بل يختاره الباب لك.

أدخلُ من الباب، وأخرج على هيئة فتاةٍ أحببتها خلسةً دون أن أعرف، أشعر بالرعب الشديد، كيف سأفسر وجودي هنا؟ أين ذهب جسدي؟ وكيف سأعود إليه؟ أختلس الخطوات إلى الخارج، فمن حسن حظّي أن البيت فارغ، عليّ أن أعود إلى بيتي، أقصد بيتها، لكن أين بيتها؟ أعرف أنه في الحارة البعيدة، ولكنّني لا أعرفه تماما، وإن عرفته فأنا لا أعرف غرفتها أو أخوتها وأخواتها، كيف سأتصرّف وماذا سأفعل.

-  اهدأ ولا تنزعج، عليك أن تستمتع من الآن، من لحظتكَ تلك، وعندما تدلهمّ العتمة، ولا تترك لك مجالا كي تفكّر، كل ما عليك هو أن تعدّ إلى ثلاثة ثمّ تفرقع أصبعيّ الإبهام والسبّابة حتى تتحوّل أكبر مشاكلك إلى إصبعٍ من "الكُفتة".

واحد.. اثنان... ثلاثة...

تنطلق صافرة الإنذار الأولى، لتوقظ الجميع وتُعلنَ عن سقوط أوّل صاروخٍ على "إسرائيل"، فورًا يقفز أخي من مكانه كالمذعور، يقطع المسافة إلى باب المنزل ركضا، يخْرج من الباب، يتأرجح على ماسورةٍ حديديّة على جانب الباب ليسحب جسده إلى السقف لمشاهدة الصاروخ، وأنا ألحقه مشدوها بتلك الماسورة التي ما زلت عاجزا عن الوصول إليها، يتشدّق أنه قد رأى الصاروخ وأنا أكذب مدّعيا أنّي رأيته أيضا تماما كما رأيت وجه صدّام مطليّا على وجه القمر.

أعود إلى خيبتي المستترة المتعدّدة الأوجه، فأنا لم أرَ الصاروخ، والصاروخ مرّ مرور الكرام دون أن يتوقف ليطلقَ التحيّة، ليتبيّن لاحقا أيضا أنّه مجرد صاروخ عاديّ بدون أي غازات لذيذة أو قدرات فائقة، وأنا ما زلت لا أتقن فن التسلّق إلى سطح المنزل.

أغرق في "لغزٍ" قرأته عشرات المرّات، ألتحف متعة المفاجآت المتوقّعة تماما، تعود بذات الحرف وذات المشاهد المتدفّقة في الرأس، لأجِدَ والدتي قد انتهت من تجهيز الطعام – في الثالثة صباحا - احتفاء باجتماع العائلة التي اتّسعت لتشمل الجيران الذين وفدوا لمشاهدة الحرب –التي لم تأتِ تماما – معنا.

أعود بعدها إلى حلمي وإلى ذلك الباب، الذي لا يكف عن مفاجأتي بالمواقف الغرائبية التي يفرضها علي، حيث خرجت منه مرّةً شخصا لا أعرفه يسير في شوارع تل- أبيب الفارغة من أهلها، يسير وسط الشّارع الخالي من السيارات، وينتظر صفارات الإنذار وما يتبعها من صواريخ.

تُفرز طبيعة الذّكريات عند البشر فَجَوات غير مفهومة، بعضها قريب كمَقْطَعٍ من الطّريق مررت به قبْل دقائق ولا تَذْكرُه بتاتا، لتنتشر كالسرطان في الماضي البعيد فَتخْلق سنوات جوْفاء تشبه ذَبْذَبات قلْب رجل ميّت.

تَقفِز الذّكريات عشرين عاما إلى الأمام، لأجدَ أنّ أخي قد  تزوّج وسَكَنَ في ذات المنزل، وأكْتَشِفُ وأنا جالسٌ مرّة في فراشي أنّ الباب قد تلاشى، ليسَ هُناك أيّ باب، بقي فَقَط حائطٌ أصمّ مدهون بألوان زاهية، وبعض الذكريات عن باب لم يُفْتَحْ بعد، بتُّ غَيْر واثقٍ أنّه كان موجوداً أصلاً.


*قاص من فلسطين 48

مقالات اخرى للكاتب

قص
22 مايو 2017
قص
1 مارس 2017
قص
5 ديسمبر 2016
قص
17 نوفمبر 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.