}

عقارب الساعة

لديّ أربعة احتمالات لمحاولة النوم، على البطن أو الظهر، على اليسار أو اليمين،

وكل المحاولات للدوران مئة وثمانين درجه لا تغير من عدد الإمكانيات.

عقارب الساعة تحمل كامل سمّها في ذيلها الذي يبحث عن فريسة يبثّه فيها لالتهام وليمة قبل مواصلة المسير الأبدية نحو مكان مألوف.

ما زلت مستهجنا كيف تأتّى اسم عقارب الساعة لذلك الشخص الأوّل الذي نحته.

تصدر أصواتا تقفز عبر الزجاج السميك لتعبر الصالون وتصل إلى مسامعي وتراقص طبلة أذنيّ بوتيرتها الثابتة

تك... تك... تك... تك

تدور مراوح الذكريات إلى تاريخ تلك الساعة تحديدا، تاريخ كانت تكنولوجيا الساعة فيه هي أحدث صرعات ذلك العصر، عصرٌ حديثٌ عهده بالحداثة، ينساب عقرب الثواني بسلاسة هادئة دون أي صوت، تمر ذكريات الطفولة كجدول ماءٍ صغير في دروب قليلة العثرات.

العقارب صبورة جدا على الجوع والعطش فهي تصبر بدون ماء مدة قد تصل إلى عامٍ كامل!

ولكن وعكةً صحية ألمّت بتلك العقارب - كيف لا وابن النظير يقول في شرحه عن العقرب "وعَيْشٌ ذو عَقارِبَ إِذا لم يكن سهلاً، وقيل: فيه شَرٌّ وخُشُونة؛" - فتوقف التاريخ عن توثيق نفسه. واضحة الوتيرة هي مسيرة الساعات تماما عكس مسيري الأشبه بقفزات على سطح كوكب يدور دورة إلى الأمام ونصف دورة إلى الخلف.

تقول الحكاية إنّ هارون الرشيد أهدى ملك فرنسا شارلمان الملقّب بالمطرقة ساعةً مائية، ولكن الأخير شكّ أن تلك الساعة مسكونة بالأرواح التي تحركها فخبّأها في قبوٍ عميق تحت قصره، ما لم يدركه ذاك المطرقة أننا نحن لسنا سوى مجرد ساعاتٍ جدوى لحميةٍ معيرّةٍ مسبقا.

أخذ والدي الساعة إلى هناك... عبْر الحواجز العسكرية.. إلى ذواتنا الأخرى التي تشبهنا قليلا ولكننا لا نشبهها. فهناك قيمة البشر قد تتأرجح على محكّ مؤشر السلع الثابت.

كيف سيصلح الساعاتي يا ترى آلة تدق نبضات اندثاره؟ تعود الإجابة بشكل الساعة نفسها معلقة على الحائط ولكن بدون دقاتها البهيجة كل ساعة معلنةًّ انتصارها عليك بجولة أخرى.

لم يعد ذلك مهما بعد أن أهملنا تلك الخاصية منذ زمن وأبطلناها.

ولكن آثار الزمن لم تشفع لساعتنا وألزمتها الإتكاء على عكاز الوقت والتأفف كل ثانية من الضجر على شكل إيقاعها الثابت.

العقارب لا ترى لا تسمع ولا تشم، إنّها فقط تلتقط ذبذباتك... 

تناور العقارب بين عذابِ الصوت الروتيني الذي لن يملّ قبل أن تجنّ، وبين رقّاصٍ يناور يقظتك لتنويمك مغناطيسياً حتى يحصل على ما يريد.

تك... تك... تك... تك

تك... أنت تفقد إحساسك بالألم والمتعة، بالحزن والسعادة،

تك... روحك تخرج من جسدك لتطل عليه وهو يتقلّب،

تك... تنسى لماذا جئت أصلا إلى هنا، من كنت ومن ستكون،

تك... مرحبا بك في عالمنا.

غريب أمر الأحلام والكوابيس، فهي كالكازينوهات تفتقر إلى الساعات وعقاربها أو حتىّ الساعات الرقمية، بل ويدّعي العلماء أن الأحلام تحوّر الزمن حيث تحدث الأحلام في زمنٍ أبطأ مما يستغرقها الأمر في الحقيقة. 

أغطّ في نومٍ مترفٍ بالكوابيس القديمة التي تكاد تذكّر بالواقع، تزداد الجاذبية حتى تلتصق كل أطرافي بالأرض، تتدحرج على الأرض مغناطيسات عملاقة على شكل مداحل لترقيع الشوارع تسوّي الكرة الأرضية، تحولها إلى مستوٍ صَقيل، تصعد على جسدي فيصبح ورقة تلتصق بالمسطّح، أعارك كي أعيد البعد الثالث إليّ، أبدأ بالبكاء والنحيب كطفل رضيع غارق في غائطه.

تبدأ الأرض بالتعرق من الاحتكاك والحرارة، يتصاعد بخارٌ كثير يحجب الشعور بالأمل، وعندها أستيقظ وألحظ طرف إصبعي يكاد يستعيد شكله في إثر حلم راودني.

وأعود إلى دراسة إمكانياتي في وضعية النوم. فتعاود العقارب هذه المرّة بصرامةٍ أكبر وبصوت أشد إيلاما لحفرِ قنواتها في شراييني.

تك... تك... تك... تك...

تك... تقفز العقارب لترسم دائرة على بطني، وتتصالب العقارب لتحوله إلى هدف ثابت بعدّاد رقمي تنازلي ينتظر ساعة الصفر حتى تبدأ المرحلة القادمة.

تك... يتحول الجسد إلى جثمان، تبدأ عملية التفكيك والانعتاق من الملموس والمحسوس.

تك... يرقانة صغيرة تجاور الدودة الأمّ لتخرج من ثقوب جديدة في الجسد المتفكك، تنتقم لكل الهَوام التّي دستها من فصيلتها وتقضم طريقها لتشم بعض الهواء المسمم ببخار الجسد النتن، جسد تم بناؤه من تراكميّة جينية سحبتها من التقاء مصادف بين صندوقين آخرين للجينات لتحدث مصادفة جديدة... صار اسمها "أنا".

تك... تسقط محاجر العيون من مكانها، وتنفغر حفرة مكان الساعة لتخرج منها مخلوقات صغيرة حقيرة تكمل مسيرة كتابة تاريخ الجثّة... جثّتي.

 

*كاتب من حيفا/ فلسطين 48

مقالات اخرى للكاتب

قص
22 مايو 2017
قص
1 مارس 2017
قص
5 ديسمبر 2016
قص
17 نوفمبر 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.