}

محمد العمراوي: الشعر مواجهة دائمة مع العدم

ميسون شقير ميسون شقير 3 فبراير 2023
حوارات محمد العمراوي: الشعر مواجهة دائمة مع العدم
محمد العمراوي ملقيًا إحدى قصائده
على هامش مهرجان سيت لشعر البحر الأبيض المتوسّط، التقت "ضفة ثالثة" مع الشاعر المغربي المقيم في فرنسا، محمد العمراوي، صاحب الديوانين الشعريَيْن: "النافذة... الأحد وأيام أخرى"، و"من هذه الجهة وما حولها"، وأجرت معه الحوار التالي: 

 
(*) في البداية، هل نستطيع برأيك أن نقول إننا نلوذ بالشعر من الإحساس العميق بالفناء وبالعدم؟ وما الذي يقدمه لك الشعر ككاتب وكقارئ؟

بالفعل، أظن أن الكتابة الأدبية، وكتابة الشعر بشكل خاص، تكون غالبًا متصلة بجرح ما في الحياة. جرحٌ يقود الذات إلى الوعي بأنها في مواجهة دائمة مع الفناء والعدم، تصطدم به أو تحاول الهروب منه ونسيانه، أو تعيشه بشكل ما، بشكل صوفي أو ساخر أو تراجيدي، حسب قوة الجرح نفسه بالداخل. والشعر بأشكاله المختلفة يحاول إعطاء صيغة لكل هذا. الشعر منذ القدم عندنا، وعند الشعوب الأخرى، وكذلك المسرح عند الإغريق، كان في أغلبه مأساويًّا، فقصائد الحب كانت تمدح الرغبة والعشق، وتخاف في نفس الوقت من مواجهة ما قد يحطمها.

كقارئ وككاتب، يكون الشعر بالنسبة لي انتصارًا للحياة في أكثر الحالات ظلامًا. الشعر، في حياتي كلها، حماني، وما يزال يحميني، من السقوط في مطلق الكآبة، وذلك بجعلها نسبيّة. ليس هناك شقاء مطلق ولا سعادة مطلقة أو كاملة. الشاعر الصيني لو شون في كتابه "العشب السيّء"، يستشهد بمقولة الشاعر الهنغاري، شاندور بيتوفي: "الأمل وهمٌ، وهذا ما يجعله مشابها لليأس". الشعر إذًا مزيج من الأمل واليأس الخلاق.

(*) تراهن على ما يسمى بالشعر الحركي أو الشعر الموسيقي، أي أنك تراهن على التواصل الصوتي مع القارئ الذي سيتحول إلى مستمع، ما الذي تعتقده مميزًا في هذه المراهنة؟

هناك منذ سنوات رجوع كثيف لحضور الشاعر أمام الجمهور وحضور صوته. وأظن بأنّه لولا لقائي مع أصوات الشعراء وسماع شعرهم لما كتبت. فالصوت هو الذي قادني إلى صفحة الكتاب. وكنت أقرأ كتب الشعر بالصوت. الصوت يعطي للنص موسيقاه، ويرسم في مخيلة المستمع مناخه العام، والكِتاب يرسِّخ هذا الصوت، ويعطي الفرصة للتعمّق بإمعانٍ في طقس وكون النص. أحاول أحيانًا أن أتصور كيف كان المستمع يتلقى القصيدة في العصر الجاهلي، حين كان الشعر شفويًا، حين كان حضور الصوت والجسد مباشرًا، ولا يمر بواسطة الكتابة.

الشاعر كان يشكِّلُ آلياته ويُبنْيها في ذهنه ككتابة، أي يعمل على لغتها وموسيقاها كما الذي يكتب الآن. لكن المتلقي كان يستمع إليها فقط ويرى صاحبها، ولم يكن له إلّا حفظها أو نسيانها، لأن الذاكرة كانت لها وظيفة الفضاء الذي تسكنه الكتابة اليوم. الآن، نكتب أولًا ثم نلقي الشعر. وفي الحالتين، تكون هناك علاقة مباشرة بين الصوت والأذن والعين. الصوت يفكر بشكل ما في طريقة أدائه، ينظم موسيقى ما يلفظه، واليدان وملامح الوجه أيضًا ترافق ذلك، والأذن تصغي والعين تتلقى هذه الطريقة في الأداء.

هناك طبعًا نوع من الكتابة يكون من البداية مكتوبًا من أجل الإلقاء. لا أعني بهذا الوزن أو الغنائية أو الإنشاد أو الموشّح أو السجع، كما عبر عنه الشعراء والبلاغيون القدماء، بل أيضًا تبعثر الكلمات والجمل في النص، وقوة الصمت فيه، حسب ما يقتضيه مضمون النص. لأنّ الأداء والإلقاء والحركة، ليست فقط اصطناعًا سطحيًا، بل تنبع من داخل الشاعر ومن داخل النص نفسه، أو لنقلْ أنّه "اصطناع يتمّ بعمق"، كما يقول نيتشه عن الإغريق. طبعًا هناك قطيعة بين القديم والحديث، ولكنها ليست مطلقة، فـ"الهايكو" الذي هو قديم عند الآسيويين، أصبح حديثًا اليوم عندنا، وهو أيضًا قريب من ناحية وحدة البيت واستقلاله، من القصيدة العربية القديمة. وقراءة "الهايكو" بالصوت تختلف تمامًا عن قراءة نص طويل يبدو كبيت واحد مثلًا.  

أكتبُ أحيانًا نصوصًا صوتية، يكون فيها الصوت العنصر الأهم، لأنّ الصوت هو ما يجعل المعنى ممكنًا. لكن ثمّة نصوصًا صوتية تُكتَب، دون أن يكون الهدف الأساسي هو الصوت. أعني أن هناك صوتًا داخليًا يكتب، لكن النص قد يُقرَأ منفصلًا عن هذا الصوت. النص منفرد ومنفصل عن النيّة التي ترافق كتابته. على النص أن يعيش حرًا ومستقلًا. والعمل على ما هو صوتي في اللغة، عليه أن يكون مرتبطًا بالمضمون، بل إن المضمون هو الذي يعطيه شرعيته الشعرية. الشكل الصوتي يُظهر المعنى، يكشفه، وإلا فقد يكسفه. هذا البعد الصوتي حين يكون عنصرًا أساسيًّا للنص، تحدثُ استحالةُ الفصل أو التفريق بينه وبين المعنى، إذ لا يمكن ترجمته، لأن الترجمة ستتكفّل بالمعنى، وليس بالشكل الصوتي. ولأن هذا متعلّق بخصوصية اللغة نفسها وليس بالمعنى المجرد.

أظن أن الشعر الآن أصبح يمتلكُ القدرة على التعدّد على مستوى الشكل والمضمون، فهو يرجع إلى أصوله الشفويّة لكي يُجدّدها، وهو يغْرف من كل ما تعطيه له إمكانيات الصوت والموسيقى والمسرح والفيديو وفضاء الصفحة. لكن المهم هو ألا تأخذ هذه الإمكانيات مكان الشعر، وأن يكون الشعري هو الميزة الأساسية للنص، وليس العكس. فحين أقرأ أو أسمع أو أرى علي أن أقول بشكلٍ حدسي أنّ ما يُعطى إليّ ليس مسرحًا ولا تشكيلًا ولا إنشادًا، بل شعرًا قد يكون قريبًا من المسرح أو الإنشاد أو التشكيل.

أقول دومًا بأنّي تعلمت كتابة الشعر عن طريقً أصوات الشعراء مثل: محمود درويش وأدونيس وممدوح عدوان ومظفر النواب وعبد الله زريقة. وبعد ذلك أصوات الممثلين الفرنسيين مثل روجيه بْلانْ وجان فيلار ولوران تريزيف، وأحيانًا كنت أستمع لممثلين إسبان يقرؤون لوركا ونيرودا دون أن أعرف اللغة الاسبانية.

الشعر موسيقى اللغة، سواء منه التفعيلي أو النثري، الغنائي أو الساخر أو العيني الذي يعمل على فضاء الصفحة. وحين أستعمل كلمة موسيقى، أعطيها كل ما تمتلكه الآن من المعاني، ليس فقط ما تنتجه "النوتات" في ارتباطها، بل أيضًا في الصمت الذي يتسلل بينها، مثل ما يُسمّى بالموسيقى المعاصرة. حين أعمل مع موسيقيّ، نحاول ألا تكون الموسيقى مجرّد تصويرٍ للنص ومحاكاة له، بل حوارًا بين فضاءين وتفاعلًا وتداخلًا يفضي إلى فضاء عام. هكذا تلتقي موسيقى لغة الشعر ومجازاته بموسيقى الأداة الموسيقية ومجازاتها، وتفترقان وتختلفان في لقائهما، وشدّة ائتلافها تكون في شدّة اختلافها، كما يقول عبد القاهر الجرجاني في حديثه عن المجاز.


(*) تكتب باللغتين الفرنسية والعربية، أي اللغتين أقرب إليك؟ وبأي لغة تحلم؟

الحقيقة، من الصعب عليّ الآن أن أُؤكّد بشكل حاسم أيّ من اللغتين أقرب إلى روحي. فكأن روحي لها شكل قلب يتكوّن من البُطين الأيمن والأيسر. فاللغتان تسكنه وتنتقلان من حُجرة إلى أخرى بشكل حر. لا بد لي من الغرفتين لكي أعيش الآن. اللغة الفرنسية أصبحت لغة يومية لي مثلما العربية. الفرنسية التقيت بها من خلال عشقي للشعر، وهي لغة زوجتي. والعربية تبقى دائمًا بالنسبة لي اللغة الأقرب إلى أمي، إلى القلب الذي تسكنه أمي، وهي اللغة الشعرية الأُولى والأَوْلى. أقول الأقرب من الأم، لأن لغة أمي هي الدارجة المغربية، وأنا أكتب بالعربية الفصحى التي تعلمتها في المدرسة، وأمي التي لم تذهب إلى المدرسة لم تكن تعرفها. العربية الفصحى هي لغة أبي الذي كان يدرك كل أسرارها.

وكأني أشاطر قلبي لغة الأم ولغة الأب ولغة الزوجة. وحين أحلم تتداخل اللغات كلها. فذات ليلة حلمت أنّ أمي التي لا تعرف الفرنسية، تتكلم بها مع أصدقائي هنا في فرنسا، مع أنها لم تأت أبدًا إلى فرنسا. وذات ليلة أخرى حلمت أن صديقي الفرنسي يتكلم مع أمي بالعربية. اللغتان إذًا تتدخلان، وأحيانًا أنهض من حلمي دون أن أعرف إذا ما تكلمت بالعربية أم بالفرنسية، وربّما بالاثنين، خصوصًا أنني في حياتي اليومية غالبًا ما أخلّطهما.

أنت تعرفين القصيدة التي كتبها درويش إلى إدوارد سعيد، والتي يقول فيها بصوت إدوارد، إنه ينسى بأي لغة يحلم، وأن "الهوية بنت الولادة لكنها في النهاية إبداع صاحبها". والحقيقة أن اللغتين التي أكتب بهما غريبتان عني، وهذا الاغتراب يجد معناه بسعادة في الشعر. فالعربية الدارجة (العامية) كوّنت هويتي وهي بنت ولادتي، وكنت مضطرًا أن أتكلم بها إذا كنت أرغب في التواصل مع أمي ومع العالم الذي أُعْطِيَ إليّ وأنا صبي. ثم جاءت الفصحى، واندمجت في الهوية، والتقت بجذورها الثقافية الشرقية. ثم جاءت الفرنسية عن طريق المدرسة بشكل صادم لأنّ جذورها غريبة من جهة، ولأن تاريخها تاريخ عنف واستعمار، ولولا الشعر لما استطعت مقاربتها قلبيًا.

وتبقى هناك لغة أخرى هي لغة أصل بلدي، وهي الأمازيغية أو البربرية التي لا أتكلمها، فهي مكوِّنة لهويتي ثقافيًّا، دون أن تكون مكونة لها لسانيًّا. هناك طبعًا من يكتبون بلغة أخرى، لأنهم يرفضون لغتهم كونها كانت صدمة في حياتهم. أتذكّر فتاة من كمبوديا، كانت ترفض الكتابة والكلام باللغة الخميريّة، بسبب المأساة التي عانت منها عائلتها في ظل نظام الخمير الحمر. أمّا الفرنسية، فبالرغم من كونها تاريخيًا لغة المستعمر، فهي أيضًا لغة من قاوموا الاستعمار سواء من فرنسيين أو مغاربة.  

(*) ما تأثير الاغتراب على المنجز الأدبي؟

لا أدري في الحقيقة، أي معنى سأعطيه هنا لكلمة الاغتراب، وهي أظن مثل كلمة الاستلاب، غامضة في ذهني. يمكنني القول أنّ الإحساس بالاغتراب أصبح في طبيعة علاقتنا بالعالم، إذا أخذناه بمفهوم العجز عن ضبط مصيرنا. وهو قريب من مفهوم الغربة. نحن نحس أننا في منفى سواء داخل بلدنا أو خارجه. ونحاول مقاومة هذا الشعور وتجاوز العجز. قد يقود الاغتراب إلى انفصام الذات عن نفسها وعن الآخر. ولكن الوعي بهذا، والتعبير عنه في الشعر، هو مقاومة لهذا الإحساس أو محاولةً لجعله إيجابيًا بشكل ما. فمن الضروري الخروج من الذات وإدراك غرابة الحياة، ولكنه خروج للدخول بشكل أعمق في ذات الآخر، والرجوع إلى ذاتنا بشكل أعمق أيضًا. كل الأمر هو في درجة الاغتراب، أي في المسافة التي تقطعها الذات للعبور إلى نفسها وإلى الآخر.

أستعمل هنا كلمة الاغتراب في علاقة مع غربة العالم والغربة داخله، ولا بمعنى الانسلاخ من الثقافة العربية والخضوع لثقافة الآخر. الذات تحس أنها غريبة عن نفسها، تغترب وترى نفسها تغرب في سماء أخرى غير سماءها، لكنها تستطيع أن تجعل من هذه السماء سماءً تنير سماءها عوض أن تُظْلمه. قد يكون ضوء الغروب مشابهًا لضوء الفجر. علينا إذًا أن نجعل من هذا الإحساس أملًا في أن يكون ضوءًا للنهار أو ليلًا مضاءً بالقمر. ولكن هذا الأمل متصل طبعًا بمدى قوتنا أو عجزنا في العالم الذي نعيش فيه. أما إذا كان المقصود بالاغتراب هو التعبير الأدبي بلغة أخرى، فهذا شيء آخر حين يكون الأمر متعلقًا بشخص ما. قد يكون الشاعر أكثر اغترابًا بذاته في لغته، وقد يكون أقلّ اغترابًا في لغة أخرى. قد يدافع كاتب ما عن ثقافته ولغته بلغة أخرى، وقد يحطم ثقافته بلغته.

تصوري مثلًا أن عددًا من الكتاب الأيسلنديين يقرؤون بلغة أخرى، فقد يكون هذا تهديدًا لفناء لغتهم ولغة أدبهم، لأنها لغة أقليّة. أما حين قرر الأيرلندي صموئيل بيكيت، أو الروماني سيوران، أو المغربي عبد اللطيف اللعبي، الكتابة بالفرنسية، فهذا لم يكن يهدد لغاتهم بالفناء، وكذلك كافكا وبول سيلان وآخرون. مسألة الاغتراب في ثقافة أخرى ليست مرتبطة بشكل مطلق بالتعبير بلغة أخرى.

من جهة أخرى، الشاعر بشكل عام مغترب في لغته وفي بلده، وأحيانًا يُزْدوجُ هذا الإحساس بالغربة في المنفى. ومن حسن الحظ، هناك منافٍ أقل حزنًا وشقاءً من المنفى الداخلي. وفي كل الحالات، يكون الشعر نافذة نرى فيها وضوحه أو ضبابه.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.