}

صفاء فتحي: ثورة يناير أعادتني إلى مصر

أحمد عبد اللطيف 12 فبراير 2018
حوارات صفاء فتحي: ثورة يناير أعادتني إلى مصر
صفاء فتحي

منذ ثلاثة أشهر، تقيم الشاعرة والأكاديمية المصرية صفاء فتحي في مدريد. إنها إقامة مؤقتة لإنهاء كتاب نثري كبير احتاجت إلى هذا الوقت لإتمامه في مدينة تراها ملهمة ومشبعة بالروح. لكن إقامة فتحي الأساسية هي باريس، حتى تقيم منذ رحلت عن مصر أوائل ثمانينيات القرن الماضي. منذ هذا التاريخ البعيد لم تكف فتحي عن كتابة الشعر والدراسة وكتابة الأبحاث العلمية والتنقل أحيانًا إلى مدن أخرى للمشاركة في مؤتمر ما. وفرنسا كانت الأرض التي استقبلتها بعد أن خرجت من مصر هاربة من كل السياقات المميتة، سياقات كانت تعرف أنها لن تستطيع أن تكتب بداخلها، ليس فقط لأنها مطاردة من الأمن لكونها إحدى أعضاء الحركة الطلابية في نهاية السبعينيات، بل أيضًا لأنها باتت مطرودة من اليسار نفسه الذي انتمت إليه دومًا لأنها انفصلت عن أحد أعضائه. هكذا أصبحت صفاء فتحي وحيدة، مطرودة من الجميع حتى أهلها، إذ كان أبوها جنرالًا في الشرطة المصرية وكان نشاطها السياسي منبع قلق ونقمة من جانبه. لم تعرف صفاء إلى أين يجب أن تذهب، لكن الصدفة وحدها ألقت بها في باريس بعد أن انتهت من دراسة الأدب الإنكليزي وباءت محاولاتها السفر إلى إنكلترا بالفشل.

هجرة وتيه وبدء

(*) خرجت صفاء فتحي من مصر ناقمة عليها، بقرار ألا تعود. لكن ماذا وجدت في فرنسا؟ وما الأسئلة التي طرحتها على نفسها كمهاجرة في بلد لا يحسن استقبال ضيوفه؟

تقول صفاء فتحي: "لم تكن أسئلة، يمكن أن نقول إنها كانت حالات. وصلت إلى فرنسا بلا ورق إقامة، كل شيء كان صعبًا ومعقدًا، زاد تعقيده قرار بأني لن أعود إلى مصر مرة أخرى، لم يكن أمامي حل آخر إلا المقاومة والبقاء والبحث عن موضع قدم. حينئذ بدأت أبحث عن حل، ظللت ألِف وألف وأطرق كل الأبواب، لم أكن أبحث إلا عن الأشياء الأساسية كالأكل والشرب والإقامة، وكنت أطمح أن أدرس. حينئذ بدأت بتعلم الفرنسية، وخطر ببالي موضوع لرسالة دكتوراه، فظللت أتنقل من مكتبة لأخرى وأقرأ وأقدم في جامعات وأتلقى الرفض، حينها تماسكت لوجود أصدقاء ساعدوني. وعندما أغلقت الأبواب أمامي اقترح صديق أن أقدم في السوربون، سخرت في البداية لأن الجامعات الأقل لم تقبلني، لكني رضخت تحت الأمل والتجربة، وقابلت أستاذًا اطلع على شهاداتي وتناقش معي ثم أطلعني على مواعيد التقديم للدكتوراه. كان أستاذًا في الأدب الأميركي، وكنت أود العمل في أطروحة عن المسرح معه لأحصل على توقيعه. في المحاضرة الأولى، كان الأستاذ يتحدث في موضوع يدخل في سياق فكرتي. في الأسبوع التالي أخبرني أنه وافق أن أحضر معه، وبعد شهور راسلتني الجامعة بالموافقة وبدأت الدكتوراه. كان هذا سؤالي الآني، أن أثبت، أن أبحث عن أفق، أن أحاول السيطرة على حزني وخوفي وأنا فتاة في الواحدة والعشرين وفي وسط مجتمع غريب. هذه الحالة من التيه كانت حالتي. أما مشاعري فكانت شعورا كبيرا بالغربة الشديدة وعدم الحميمية ووجود المسافات".

مطاردة من

الأمن واليسار

ترى صاحبة مجموعة "... وليلة" أن المجتمع الفرنسي لم يكن متسامحًا معها، تقول: "على المستوى الإجرائي داخل الجامعة، نعم كان ثمة تسامح، لكن المجتمع نفسه لا، بل ولا حتى داخل حرم الجامعة وبين الزملاء. كل ذلك كان عقبات أمامي".

من ناحية أخرى، لم تواجه صفاء فتحي أي قلق بخصوص الهوية أو أسئلتها التي عادة ما تخطر ببال كل مهاجر ما أن يجد نفسه في ثقافة ومجتمع مختلفين، تعليل ذلك أن صفاء كانت ترفض مبدئيًا الهوية المصرية، وقامت برحلة قاسية للهرب من مصر، تقول: "لم أشعر بأي ازدواجية لأن علاقتي بمصر كانت قد ساءت إلى حد الهروب منها، كل ما كان يهمني هو عائلتي، وكنت أطمئن عليها عبر التوصل بشرائط الكاسيت التي كانت مرسالنا وقتها. في تلك الفترة كان يشغلني أن أضمد جروحي مما حدث لي في مصر، وأن أبني نفسي وأكوّن رؤيتي للحياة"، وتضيف: "كنت في الحركة الطلابية التروتسكية التي انتهت بمصيبة كبرى، وكانت الشرطة تطاردني بسبب ذلك، وبات التروتسكيون يرفضونني لأني انفصلت عن أحدهم".

 احتاجت صفاء فتحي لسنوات طويلة حتى تتصالح مع مصر، ربما أكثر من 15 عامًا، هكذا في منتصف التسعينيات عادت في إجازة لثلاثة أشهر إلى مصر، وتنقلت ما بين القاهرة والمنيا، مسقط رأسها، وحينها قررت أن تزور مصر كل عام وأحيانًا مرتين في العام. إلا أنه، مع ذلك، كان صلحًا منقوصًا، لم يكتمل إلا مع نشوب ثورة يناير.

رحيل وعودة

حضرت صاحبة "اسم يسعى في زجاجة" كل أحداث ثورة يناير، شاركت فيها كمن يشارك في تحقيق حلمه، "الثورة حسمت علاقتي بمصر، الثورة أعادتني لمصر ومنحت لكل شيء معنى"، تقول.

ذكرى الثورة تعيدها إلى سنوات الطفولة والمراهقة، حيث يحتل طه حسين مكانًا بارزًا، وحيث كان كتاب "الأيام" يحمل نداءً لها. صفاء من نفس محافظة حسين، المنيا، ومثله أيضًا درست في السوربون، هو سافر إلى فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي سافرت في نوع خاص من الحروب، حروب خاصة بمصر المتمردة على نظامها السياسي ودولتها الأمنية. تحكي صفاء أنها قرأت وهي صغيرة كتاب "الأيام"، وكان في الكتاب نداء ما موجه إليها هي بالذات، مع الوقت بدأت تكتشف ماهية هذا النداء، تحديدًا عندما أغلقت الأبواب أمامها وقررت الهجرة، فكان مصيرها باريس وجامعة السوربون. تقول: "ضم هذا الكتاب جزءًا من حياتي التي يجب أن تكتمل هناك". أسألها إن كانت تقصد السير على خطاه؟ فتنفي، "ليس السير على خطاه بل نوع غامض من النداء".

يمكن أن نقول إن الشاعرة صفاء فتحي ولدت في باريس، ليس لأنها لم تكتب قبل رحيلها، بل لأنها لم تتحرر من دائرة الصراعات إلا بعد الوصول لفرنسا، ليس التحرر، فالمسألة طويلة وممتدة، لكنها القدرة على رؤية المشهد من خارجه والبعد عن كل وسائل القمع، من الجانبين: السلطة واليسار. تختصر صفاء المشهد بعبارة واحدة: "كنت منتهكة، ليس انتهاكي من الأمن فحسب، بل وفي الشغل والشارع والعلاقات والمواصلات، وكانت أول خطوة حقيقية نحو الكتابة هي السفر، وكنت أعرف أني لن أكتب كلمة لو بقيت في مصر، السفر كان شرطًا لكل شيء، هو بداية عملية تحررية ما زلت فيها حتى الآن".

(*) لكن لو افترضنا بقاءك في مصر، هل كانت شعريتك ستتغير؟

تجيب "بالتأكيد، فرنسا فتحت لي أفقًا جديدًا".

بُعد صوفي

يتميز شعر صفاء فتحي بالبُعد الصوفي والتأثرات القادمة من النفري وابن عربي، رغم حياتها الدائمة في باريس ودراستها للأدب الإنكليزي أولًا ثم لمسرح بريخت في أطروحة الدكتوراه، ثم التخصص بعد ذلك في جاك دريدا. وفي هذه الشعرية لا يغيب سؤال الموت، كأنه عمود مركزي في تجربتها.

تعلق بأنها انتبهت منذ البداية لفكرة موت الأطفال والوأد، "لكل هؤلاء المجهضين الذي لا يصلون لوعدهم، فالكائن وعد والموت بتر للوعد. وانتبهتُ كذلك إلى أني لا أجيد البوح ولا كتابة الاعترافات، إنما أميل للمجاز، لكنه ليس مجاز السبعينيات. ربما حدث ذلك لأني في فرنسا، وربما لو بقيت في مصر، وكتبت، لكنت تناولت الحياة اليومية، وربما تأثرت أيضًا بالأجواء الفرنسية".

أما الجانب الصوفي، تواصل صفاء، فربما كان نتاج مصاعب الحياة، ونتاج الإيمان بفكرة المحطة الصوفية، وكان لابن عربي والنفري والمتصوفة أثر هام بالنسبة لي، فـ"أنا مثلهم، أرى الأشياء في أضدادها، ومثلهم أرى ما وراء العالم، وأعتقد أن كل مشاهد الحياة وحدة واحدة، كل ذلك شدني إلى عالم المتصوفة وأدخلني هناك. وبالمناسبة، الفكر الدريدي يتشابه مع المتصوفة، ولقد كتبت دراسة مقارنة منشورة في البرتغال عن النفري ودريدا. كانت لدريدا علاقة بالتصوف العربي وأكثر بالتصوف اليهودي".

الموت كسؤال يومي

(*) والموت، بعيدًا عن كونه جزءًا من تجربتك الشعرية، هل يشكل سؤالًا يوميًا؟

تجيب صفاء: "نعم، هو سؤال متكرر، يومي. ربما منذ موت أخي الأصغر محمد، وربما من قبل ذلك بكثير. لقد شغلني الموت دومًا وقرأت فيه كثيرًا، ووصلت لتكوين تصور عنه، إذ بت أعتقد أن الأرواح لا تموت، الأجساد نعم، لكن الأرواح تأخذ جولات أخرى".

بالإضافة للشعر والمسرح، تعمل صفاء فتحي في صناعة السينما، تحديدًا الأفلام الوثائقية، ومن بين هذه الأفلام فيلم عن جاك دريدا وآخر عن محمد، أخيها الذي توفّي قبل الثورة بعام.

تحكي صفاء عن محمد والفيلم والثورة فتقول: "أصيب محمد بفشل كلوي عام 2004 فاقترحت عليه أن نشتري كلية، لكنه رفض تمامًا أن يشتري كلية من أحد لا بد أنه سيبيعها لحاجته. هكذا يدور الفيلم حول هذه المأساة، يتناول زرع الأعضاء وشراءها، ومياه الشرب غير الصالحة التي تؤدي للفشل الكلوي، وربط هذا الواقع بالثورة. كان محمد من الحالمين بالثورة قبل نشوبها بسنوات، وكان يرى أن الحل الوحيد هو العصيان المدني، ومات قبل أن يشاهدها".

فرنسا.. اللا وطن

(*) عاشت صفاء فتحي في فرنسا أكثر مما عاشت في مصر، أكثر من خمسة وثلاثين عامًا عاشتها في كنف الثقافة الفرنسية والمجتمع الباريسي، هل تحولت فرنسا إلى وطن بديل؟

 تقول صفاء: "لا، فرنسا لم تتحول لوطن، بل واكتشفت أني بلا وطن. الحقيقة أني اشتاق لبيتي هناك، وأشتاق لزوجي، وليس لفرنسا، هذا البيت الصغير هو وطني".

 (*) مصر إذًا ليست خارج المعادلة؟

"ليس بالضبط، أشتاق لأهلي وللنيل وللمقاهي ولأجواء القاهرة".

ربما تأثرت علاقة صفاء بمصر بعد فشل الثورة، لا بد أن شعورًا بالإحباط تسرب إليها كما تسرب للثوريين، فالتزموا الصمت أو فضّلوا الهجرة بعد أن أصابهم اكتئاب ما بعد الثورة. حول ذلك تعلّق صفاء: "الثورة أعطت لحياتي معنى وشعرت بالفخر، ثم بعد ذلك جاءت الخيبة، فشربتها وابتلعتها، ظللنا نكافح وفي النهاية لا شيء، ثم وقعت في اكتئاب شديد". هكذا، فالأمل الذي بزغ مع ثورة يناير، ما لبث أن انطفأ.

السينما والمسرح

يتوزع نشاط صفاء فتحي ما بين كتابة الشعر والمسرح والسينما. "لكن القصيدة هي الأصل"، تقول وتضيف: "هذا التكثيف الذي عندما نفكه يتحول إلى مسرحية أو فيلم تسجيلي. صناعة الأفلام هي عمل أتكسب منه، لكنه أيضًا طريقة لسحبي من عالمي الصغير، طريقة لخروجي للواقع". بذلك تسيل القصيدة المغلقة، وتتحول الكلمات إلى مشهد.

تتابع صفاء: "كذلك أعمل في المسرح بوجدان شاعر، في نفس الوقت عندما أكتب القصيدة أستدعي المسرحي والسينمائي بداخلي، أستدعي الصور. القصيدة صورة، أصوات متداخلة، كل شيء متشابك. ذات مرة قالت لي فاطمة قنديل أود لو أكتب عنك لكني لا أستطيع من كثرة التناص، وهذا حقيقي، لأن عوالمي كلها متداخلة".

الشعر وسط العنف  

(*) لكن في وسط كل هذا العنف في العالم العربي، هل ما يزال الشعر صالحًا، خاصة أن دور النشر تتحدث دائمًا عن أزمة؟

تجيب صفاء: "لا أعرف من كتب عن أزمة الشعر، لكن هناك بالفعل أزمة رهيبة في العالم العربي، وفرنسا أيضًا، والسبب غياب القراء". وتوضح: "السوق الإنكليزية والكندية والأميركية اللاتينية موجودة، لكن السوق الفرنسية متوقفة وفي العالم العربي كذلك. واضح أن هناك مشكلة في اللغة العربية، لأن الجميع يكتب قصيدة نثر في وقت ترفض المؤسسة الثقافية الاعتراف بها، فلا يمكن تدريسها في الجامعات والمدارس ولا الترويج لها في الإعلام. و"عدم الاعتراف" هذا يجعل من قصيدة النثر نوعًا أدبيًا سريًا، ونفس المؤسسة تستبعد النساء، ولك أن تنظر لعدد السيدات في مقابل الرجال. هناك شعراء وشعرية ونضال من أجل هذه القصيدة، وهو نضال يمكن ملاحظته وإن كان له تأثير ضعيف".

تشير صفاء فتحي أيضًا إلى سلطة القراء الآن، وترى أنه "تطور غريب ومفارق، إذ إن وجود وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها أعطى للقراء سلطة، وهي ليست تجربة سيئة. لكن في دور النشر الإنكليزية صنعوا لوغاريتمات ليعرفوا إن كان الكتاب سيبيع أم لا، وأنت بذلك تدخل في عملية تنميط كبرى. ونتيجة ذلك ستكون استبعاد الأفكار الجديدة. بذلك يدخل الأدب في العملية الاستهلاكية. لكن على أي حال، في العالم العربي ثمة ناشرون، مثل دار المتوسط، يناضلون للحفاظ على الشعر".

ترى فتحي، مع ذلك، أنه لا أحد سينقذ القصيدة إلا نفسها، هي حاولت استغلال القصيدة داخل فيلم سينمائي، وهي مساحة غير مطروقة لكنها مفيدة. وتوضح: "هذه مساحات مهمة لكنها لن تنقذ الشعر، الشعر سينقذ نفسه بنفسه بدون وسائل أخرى، وذلك بأن يتحول إلى نشاط يومي يمارسه الأفراد، ورغم كل العنف ستتقدم القصيدة، وليس شرطًا أن تكون قصيدة سياسية، بل يمكن أن تكون وجودية أو فكاهية ويمكن تداولها بين الناس".

الثورة في كتاب 

في عام 2014 صدر لصفاء فتحي ديوان "الثورة وحائط نعبره"، هو نتاج مشاهدات ثورة يناير وما تبعها من مذابح ماسبيرو ومجلس الوزراء وشارع محمد محمود، هو كتاب عن الثورة والهزيمة، عن قتل الناس ودهسهم لأنهم طالبوا بالحرية. تقول صفاء: "انفعلت وكتبت، وكتابتي كانت مجرد أسف شديد على الوعد المغدور".

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.