}

الحبيب السايح:كل راهن حين يُحوّل إلى سرد يصبح تاريخاً

حميد عبد القادر 21 أكتوبر 2017
ما يُخرج رواية الكاتب الجزائري، الحبيب السايح، الجديدة "من قتل أسعد المروري" من كونها رواية بوليسية صرْفة، يتمثل أساسا في تيمتها ذات الطابع السياسي. ويعتقد السايح أن البعد الفكري اليساري، وصبغتها الأدبية، جعلاها عملا أدبيا يملك الحركة الداخلية التي تنتجها اللغة كمتعة للقارئ. وتتناول رواية "من قتل أسعد المروري"، الصادرة عن منشورات "ميم" بالجزائر، و"فضاءات" بعمان، أحداث جريمة قتل تستهدف المناضل اليساري، أسعد المروري، والتحقيق الصحافي الذي يقوم به "رُستم معاود"، لمعرفة تفاصيل الجريمة، وسط تعتيم تمارسه السلطة السياسية التي اتهمت الضحية بالشواذ الجنسي، سعيا منها لرفض فكرة "الاغتيال" السياسي.  

هنا حوار مع الحبيب السايح حول هذه الرواية وقضايا ثقافية أخرى:   

 

* جاءت روايتك الأخيرة "من قتل أسعد المروري؟"، مختلفة تماما عن "كولونيل الزبربر" (دار الساقي)، فهي عبارة عن تحقيق في جريمة قتل، دون أن تكون رواية بوليسية، بحكم أن من يحقق هو الصحافي "رُستم معاود"، هل ما لحق بأسعد المروري، هو في النهاية إشارة لواقع النخب الجزائرية، وبالأخص النخب اليسارية؟

أحب أن أذكّر أني أشتغل على مشروع كتابة، منذ نكستي مع رواية "زمن النمرود"، يقطع مع نوع من الكتابة ساد في السبعينيات. مشروع يتأسس على رؤية مختلفة عن بقية مشروعات الكتابة عند جيلي. وعليه، حرصت على أن يكون كل نص من نصوصي يحمل بصمته الخاصة به ـ أو لنقل حمضه النووي؛ وهذا يستهلك مني جهدا عصبيا مستمرا ومؤلما. لك أن تتصور المعركة التي تخوضها من أجل ذلك؛ حتى لا تقع في التناص مع نصوصك نفسها، فتروح تنوعها على بعضها؛ ومع نصوص غيرك ليصير ما تكتبه مجرد مسخ ـ النقد في العالم العربي يعرف كثيرا من الكتاب الواقعيين تحت تأثير نصوصهم ونصوص غيرهم فلا يقدمون للسرد إضافة إلا ما تراكم من عناوين. لذا، كان لا بد من أن تأتي رواية "من قتل أسعد المرّوري" مختلفة عن "كولونيل الزبربر"، ليس فحسب من حيث المقاربة اللغوية، أي التركيب ـ وهو هاجسي ـ ولكن أيضا من حيث البناء على مكان وزمان وشخوص، بشكل محدد وصارم، لتخييل فترة تاريخية أو موضوع ذي علاقة إنسانية أو حادثة ـ كحادثة "أسعد المروري". معنى هذا تثبيت ما كان للذاكرة الجماعية لمجتمع ما أن لا تنساه. لهذا، في اعتقادي، تغدو الرواية أهم تغذية للذاكرة، وأنجع وسيلة لمقاومة النسيان. أما ما يُخرج "من قتل أسعد المروري" من كونها رواية بوليسية صرْف فهو تيمتها ذات الطابع السياسي، وهو بعدها الفكري ذو العلاقة بالحركة اليسارية، كما ذكرت في سؤالك؛ وهو، أخيرا، صبغتها الأدبية؛ أي هذه الحركة الداخلية التي تنتجها اللغة كمتعة للقارئ.    

* لخصت مأساة أسعد المروري، في طبيعة أفكاره الديمقراطية، ونضاله الحقوقي، بمعنى أن الراهن فرض نفسه على التاريخي، الذي نعثر عليه في كثير من أعمالك الروائية، ألا ترى أن مأساة النخبة عميقة في التاريخ، وتعود إلى الحقبة الاستعمارية؟

طبعا! ومن يقرأ الرواية ـ خاصة الذين لهم دراية بمسار الحركة اليسارية في الجزائر ـ يجد كثيرا من الإشارات إلى ذلك؛ ليس في شخصية "أسعد المروري" وحدها، ولكن أيضا في السياق العام للنص؛ لأني أتصور أن اليسار في الجزائر لا استعارة يمكن أن تلخص محنته كتلك التي مثّل بها سرڤينتيس لدونكيشوته. أنت تعلم أننا، إذ نكتب، نكون تحت وقع الراهن وضغطه؛ لأنه حاضر فينا حتى حينما نكون في مواجهة التاريخي؛ لأننا لسنا متحررين تماما من القيود التي يفرضها علينا الراهن نفسه في تحالفه مع التاريخي. إننا نواجه سلطتيهما معا ـ المتمثلتين في الرقابة بأنواعها ـ حين نروح نكتب ما يمكن أن يكون بديلا لهما معا؛ أي الرواية. ثم أنت تعلم أيضا أن كل راهن حين يُحوّل إلى سرد يصبح تاريخا. أنا لا أدري ماذا سيكون وزن التاريخي ـ في السرد القضائي الجزائري ـ بالنسبة إلى قضية أسعد المروري؛ ولكن الذي أدريه هو أن رواية "من قتل أسعد المرّوري" هي قراءة أخرى لراهن وقائع الحادثة، في ما بين العثور على جثة الضحية وما بين إصدار الحكم القضائي بحق الجاني المفترض، مبنية على أساس سرد مختلف عن بقية السرود التي تناولتها أو ستتناولها.       

* تحتل المدينة مكانة أساسية في السرد، فهي مدينة سائرة نحو الخراب، هل مصيرها مشابه لمصير أسعد المروري؟

المدينة في هذه الرواية أعرفها لأني عشت فيها بعض فترات من حياتي، وهي تشكل أحد مرتكزات ذاكرتي المكانية. لطابعها العمراني ذي العلامات المتنوعة ـ ككثير من مدن ضفة المتوسط الجنوبية، الكولونيالية خاصة ـ (العربي والعثماني والإسباني والفرنسي)، ولهجين ساكنتها والتثاقف الذي ترك آثاره على السلوك وعلى اللهجة نفسها، باعتبارها مدينة كوسموپوليتية ذات جذب وسحر وإغواء إلى نهاية الستينيات، تبدو الآن، لمن عرفوها إلى نهاية السبعينيات، مجرد هيكل؛ وكأن روح التحفز والتحرر الذي كان يسكنها غادر إلى حيث لا أحد يدري إلى أين. برغم ذلك، فأنا لا أستطيع، هنا، أن أقيم توازيا بين "خرابها"، الذي تتحدث عنه في سؤالك، وبين مصير "أسعد المرّوري". حقاً، لا أدري. الأمر متروك للقراء وللمهتمين بشأن الرواية الجزائرية. ولو أني أحمل في قلبي وفي ذاكرتي بعض ما يشقيني مما آلت إليه وهران، كما عرفتها، في فترة من طفولتي، وكما عشتها خلال أعوام الجامعة. أما مصير "أسعد المرّوري" فمؤلم حقا.

* بدل الاعتراف باغتيال أسعد المروري، يوظف السياسي في الرواية تهمة الشذوذ تجاهه، هل هي محاولة لإبراز التوتر الحاصل بين المثقف والسلطة؟

لا يمكنني أن أكون هنا في موضع الشارح أو المفسر؛ فليس من وظيفة الكاتب، ولا من حقه، أن يسوغ لنصه أمرا ما. لكن لا بد من القول إن الرواية الأدبية، في جوهرها، هي معارَضة لكل سلطة؛ أيا كانت طبيعة هذه السلطة ـ السياسية منها خاصة -. وعليه، فبديهي أن يظل التوتر قائما بين المثقف "الهامشي" غير المندمج وبين نظام السلطة الذي يعبر عن إرادة غالبا ما تكون في مواجهة مع قناعات الكاتب أو المثقف بشكل عام؛ لأن هذا وذاك، بحريتهما الأخلاقية، يزعجان كل سلطة بأسئلتهما وبوجهات نظرهما ـ إنها معارضة صميمة تبني أكثر مما تهدم لأنها تسهم في التغيير.

* عودتنا الرواية الجزائرية منذ التسعينيات، على تناول شخصية الإنسان المتطرف، لكن اللافت للانتباه في هذه الرواية، هو غياب الشخصيات المتطرفة، لماذا؟

لعل إخوتنا في المشرق العربي لم يكونوا يدركون، قبل أن يحل على بعضهم ما يسمى "الربيع العربي"، أن ما تردد، ولا يزال، في كتاباتنا السردية، ويمارس علينا حضوره يرجع إلى آثار المحنة الوطنية، التي لا تزال جرحا ينزف في ذاكرتنا الجماعية؛ بفعل كل تلك الفظائع والمآسي وجنون التخريب التي عشناها لعشرة أعوام كاملة. لكن الذي لا بد أن يحصل اليوم، في الكتابة الروائية، على ضوء المسافة الزمنية التي تمت، هو الانتباه إلى ما ترتب عما وقع؛ أي قراءة آثار "الشخصية المتطرفة" على النفوس والضمائر. وإنه لمن المحزن أن نعاين اليوم في كثير من الكتابات السردية هرولة نحو القوقعة الذاتية الأنانية ـ هربا من هذا الواقع المتعدد الأوجه شراسةً والذي لا مفر من مواجهته ـ أو غطسا في حمامات وهمية من التخييل الرومانسي لإضافة طبقة ردم أخرى للوعي الذي تدمره الصناعة الاستهلاكية المروجة لكل ما هو رخيص خفيف وسريع الهضم من الفن والأدب.

* هل من السهولة بمكان على الكاتب أن ينتقل للكتابة الواقعية بعد تجربة طويلة من الكتابة التي تطرق أبواب الصوفية مثلما فعلت في رواية "تلك المحبة" مثلا؟

ذكرت لك، أعلاه، أني أشتغل على مشروع كتابة أحقق به بصمتي ـ لأن هذا أمر حيوي لأي كاتب ـ. وأنت تعرف أن مسار الكتابة، باختلافه من كاتب لآخر، هو تعبير جوهري عن محطات الكاتب الحياتية وعن تجربته الإنسانية مع الكتابة. فبديهي، إذاً، أن تكون "تلك المحبة" مثلا، أحد تعبيراتي عن علاقتي مع الوجود، مع الله ومع الطبيعة ـ صحراء أدرار خاصة وبيئتها وألوانها وضوئها وبشرها ـ. لذا، أعتقد أن ما يحدث خلال ذاك المسار هو تحول أكثر مما هو انتقال. ثم، ألا ترى معي أن الكتابة الأدبية، لأنها فعل فردي يتطلب العزلة ـ أي الانسحاب مؤقتا من زمن الراهن ـ هي أجلى صور الصوفية!

* كما هو دأبك، حرصت في رواية "من قتل أسعد المروري"، على تقديم كتابة مختلفة، وتكسير المألوف، رغم وجود نزعة واقعية، لماذا كل هذا الهوس باللغة؟

أنت، كما أعرف، تقرأ بعض الروايات غير العربية في لغاتها الأصلية؛ فلا بد أنك عاينت الوقع اللغوي على الحكاية التي يسردها النص. وجميع المهتمين بالسرد يؤكدون حقيقة أثر اللغة الأصلية الآسر، الذي بترجمته إلى لغة أخرى، يفقد كثيرا من سحره؛ لأن هناك ما أسميه روح اللغة الذي يسري في النص. والنص لا يكتسب هذه الروح إلا بلغة اللغة ـ كما يحلو لي أن أصفها ـ. ثم، لأن اللغة هي من ضمن وسائل مشروعي، أحرص على أن "أطهّرها" من "الدنس" الذي يلحق بها، جهلا وتقصيرا. إنه لا رواية أدبية خارج اللغة التي تنمي اقتصادها من داخلها هي. وتردم نفاياتها بشجاعة. وتقطع بجرأة مع كل ترهّل.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.