}
عروض

ياسمينة خضرا يتساءل في "خليل":لماذا يعادي المسلمون أنوار الغرب؟

حميد عبد القادر

29 أغسطس 2018
 

بضعة أيام فقط كافية للغوص في حياة بطل رواية الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا (الاسم المستعار لـ "محمد مولسهول")، الصادرة حديثا بعنوان "خليل". شخصية الرواية المحورية، انتحاري من أصول مغربية، مولود في "مولنبك" (بلجيكا)، في عائلة استقرت ببلجيكا قادمة من "الريف المغربي" تحديدا، يُعرفنا به ياسمينة خضرا، ويقدمه لنا على مدى صفحات الرواية الصادرة هذا الأسبوع في باريس، وفي نفس الوقت عن منشورات "جوليار"، وفي الجزائر عن منشورات "القصبة"، ومترجمة للايطالية عن منشورات "سيليريو"، وللإسبانية عن دار "آليونزا".

يركز ياسمينة خضرا، صاحب الدراية بالحركات الإسلامية المتطرفة، على الوسط الاجتماعي والتأثيرات الأيديولوجية، لكي يرسم لنا مسار "خليل" الذي عجز عن الاندماج في المجتمع البلجيكي، فاختار درب التطرف، ونكران الحياة، في سبيل الموت والصعود إلى الفردوس. ويُحمل الروائي الجزائري الغرب مسؤولية بروز التطرف الجهادي في الحواضر الأوروبية، بفعل سياسات اجتماعية رعناء ومتحجرة تقصي المهاجرين، ولا تسهل أمامهم عملية الاندماج. وتُعد رواية "خليل" بمثابة الجزء الأخير من رباعية خصصها الروائي للعالم العربي الإسلامي، بعد روايات "سُنونوات كابل" (2002)، الاعتداء" (2005)، و"صفارات إنذار بغداد" (2006).

تبدأ الرواية من حيث ينقل سائق يدعى "علي" أربعة انتحاريين قادمين من حي "مولنبك"، مكلفين بمهمة تنفيذ عمليات انتحارية يوم 13 نوفمبر 2015، بباريس وبالضبط في "ستاد دو فرانس"، و"الباتكلان"، وفي غيرها من المواقع، بيد أن الروائي اختار التركيز على تفجير "ستاد دو فرانس"، وتفجير آخر متخيل بإحدى محطات قطار الضواحي.

انفجار في باريس عاصمة الأنوار

يقود "علي" سيارته في صمت سائرا نحو باريس مدينة الأنوار، "التي إن انطفأ أحد مصابيحها، يغرق العالم برمته في العتمة"، مثلما جاء في الصفحة الأولى من الرواية. هم أربعة "إخوة" جهاديين، يسيرون نحو "تحويل "ستاد دو فرانس" لمأتم كوني"، يستمعون للشيخ سعد الغامدي، وبينهم مناوشات صغيرة بفعل حالة القلق التي تنتابهم رغم اعتقادهم أنهم في الطريق نحو "الفردوس". يتعامل الانتحاريون مع "علي" السائق بكثير من التعالي، بفعل عقدة التفوق تجاهه. "علي" شخص غير مؤدلج، لا هم له سوى جمع بضع أوراق نقدية، على خلاف باقي أعضاء الجماعة الآخرين، وهم يعتقدون أنهم في طريقهم نحو "الفردوس"، مما يوحي بأن ياسمينة خضرا يخبرنا بأن الحماقة، تصنعها المصلحة المادية، والعمى الأيديولوجي.

جعل صاحب رواية "الرب لا يسكن هافانا" (ترجمة عربية عن منشورات "نوفل")، من "خليل" شخصية تتأرجح بين الماضي والحاضر، عبر استعادة طفولة قاسية، وعائلة فقيرة، بدءا من والده الذي لم يحسن تربيته، ووالدته الضعيفة الخاضعة خضوعا أعمى لزوجها، وصولا إلى الحياة التي لا تُحتمل في "مولنبك"، بعد ترك مقاعد الدراسة، والجري وراء الملذات، إلى غاية الوقوع بين أحضان التطرف الذي يظهر فجأة في حي "مولنبك" الشعبي ببلجيكا.

نكاد نشعر في أحيان كثيرة أن الروائي يعطي "خليل" موصفات إنسانية، على غرار عاطفة الأخوة التي يُكنها لشقيقته، وذكريات الطفولة في "مولنبك"، وشعوره بالحزن إثر هلاك إحدى قريباته في تفجير "الباتكلان"، وتلك هي المهمة الأساسية للرواية التي تظهر لنا شخصية "الانتحاري" في صورة إنسانية تُسهل عملية التحول لضحية ثلاثية، انطلاقا من كونه ضحية عنصرية غربية مقيتة حرمته من التحول لمواطن كامل يتمتع بالحياة الموعودة التي من أجلها هاجرت عائلته وتركت قسوة الريف المغربي، ثم ضحية أيديولوجية متطرفة أبعدته نهائيا من الحياة، وفي الأخير ضحية الحزام الناسف الذي لم ينفجر خلال ذلك اليوم الموعود، وحرمانه من التحول إلى "شهيد" مصيره "الجنة" و"حور العين". ومن هذه التحولات المأساوية، صنع ياسمينة خضرا إنسانا عاجزا عن السير على دروب الخلاص، بقدر السير قدما نحو هلاك محتوم.

تمثلت مهمة "خليل" في تفجير نفسه بإحدى محطات قطار الضواحي بضع دقائق بعد تفجير "ستاد دو فرانس" الذي كلف به انتحاري آخر يدعى "إدريس" صديق طفولته. لكن حزامه الناسف، لم ينفجر، فيقرر العودة إلى "مولنبك"، وهو يشعر بالخزي، والخوف من ردة فعل "إمام" الجماعة "صادق" الذي كلفه بالمهمة الانتحارية، وقد وعده بـ "الفردوس"، بعد أن جعل منه ومن رفاقه "طيور أبابيل"، وهو عنوان الفصل الأول من الرواية. ويردد "خليل" قائلا: "تكفل المسجد بإعادة تكويني، كما يعاد تكون النفايات. لقد أعطانا الرؤية والقدرة". ومن هذا التكوين العقائدي، لم يعد خليل يستمع لصوت "موكا"، الذي قال له ذات مرة، قبل أن يلتحق بالجماعة: "يتمثل الواجب يا خليل، في أن تعيش حياتك، وتترك الآخر يعيش حياته. الحياة لحظة ثمينة، ولا يحق لأي أحد أن يعبث بها".

التطرف القادم من "مولنبك"

تتحول التفجيرات إلى لحظة ثانوية في رواية "خليل"، حيث يركز ياسمينة خضرا على تأثيراتها على نفسية بطله، وعلى العلاقات الاجتماعية قبل التفجير وبعده، حينما يقدم شخصيات روائية أخرى تفاعلت مع الحياة في "مولنبك" بطرق مغايرة ومختلفة، منها شخصية "رايان" المُندمج والناجح في مجتمع عنصري لا يرحم، و"إدريس" الذي يشبه "خليل" في عجزه عن تحقيق ما حققه "رايان"، فتحوم حولهما تلك المقولة الساخرة "هل تريد أن تصبح مثل الأبله "موكا؟"، الرجل الستيني الذي يتحول في الرواية إلى رمز للفشل، على مجمل أحداث رواية تريد أن تقول لنا إن الخوف من الضياع في مجتمعات لا تقدم أي فرص لنجاح "المغترب"، هو الذي يصنع الانحراف.

تقدم لنا الرواية نماذج لعائلات مسلمة غير قادرة على توفير حياة لائقة لأبناء لفظهم المجتمع الغربي. وبعد حياة الانحراف يصبح "الياس"، "أميرا"، وأحد أتباع إمام الحي "صادق"، فيجر معه إدريس وخليل اللذين ابتعدا عن "موكا"، وعن حياتهما السابقة، أو "حياة الكلاب"، فيصبحان من "جند الرب". وعلى مدى صفحات طويلة يرسم ياسمينة خضرا نفسية "خليل"، الذي لم يعثر يوما على السعادة في بيت عائلته، فبحث لنفسه عن عائلة أخرى، فوجدها في جمعية تنشط تحت غطاء "خيري"، وهي في الحقيقة خلية إرهابية.

نعثر في الرواية على حوارات مطولة جاءت على شكل انتقاد يقدمه "خليل"، ورفاقه للغرب الذي لم يحسن معاملتهم، في محاولة لتبرير سلوكياتهم المتطرفة. لكنها ليست حوارات أحادية، حيث أراد لها ياسمينة خضرا أفكارا معاكسة، ومغايرة، مهمتها دحض تصورات متطرفة تعادي التاريخ ولا تصنعه.

تسير الرواية على هذا المنحى، وعلى حالة القلق التي تنتاب "خليل"، الذي ينتظر أن يتصل به الأمير، أو أحد من أتباعه حتى يتمكن من إخبارهم بأنه ليس بجبان، ولم يفجر نفسه ليس بدافع الخوف، بل بسبب عطب على مستوى الحزام الناسف. ويتضح على مر أحداث الرواية أن "خليل" اتخذ قرار عقائديا، عجز عن التخلص منه. كما توحي الرواية أن الظروف الاجتماعية القاهرة ليست هي السبب الوحيد الذي دفع بخليل نحو خيار درب التطرف، وجعلت منه "ضحية"، بل هي العقيدة، أو تلك الأيديولوجية المتطرفة المعادية للدين نفسه. وفي النهاية تطرح رواية ياسمينة خضرا، أسئلة بخصوص مسائل راهنة، تتمحور حول سؤال "كيف يتحول شبان مقبلون على الحياة، إلى انتحاريين ناقمين، تملؤهم رغبة إطفاء الأنوار؟". أو "لماذا يعادي المسلمون الغرب وأنواره؟".

مثلما هو الحال في رواياته السابقة، يحاول ياسمينة خضرا بفضل عمله الجديد، فهم العالم، ومحاولة إدراك دوافع هؤلاء الانتحاريين المُسلطين على الحضارة وعلى الإنسانية وعلى الأنوار. واستطاع صاحب رواية "الرب لا يسكن هافانا"، بفضل رواية شيقة، مليئة بالأحداث، تسير على وقع نقاشات أيديولوجية بخصوص مكانة التطرف في المجتمع المعاصر، أن يقترب من أحد الأمكنة الأكثر عتمة في راهن الإنسانية. لهذا تُعتبر قراءة رواية "خليل"، أمرا ضروريا.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.