}

"قارة" غزة الآن

علي العائد علي العائد 27 نوفمبر 2023
هنا/الآن "قارة" غزة الآن
النقاط الصفراء في غزة تعرضت للقصف الإسرائيلي (23/10/2023/الأناضول)

يبدو قطاع غزة على الخريطة كـ"قارة"، فكل شارع بلد، وكل زقاق مدينة، وكل بناء فيه حي، على الرغم من أن مساحة القطاع كاملًا (365 كم مربع) لا تعادل مساحة مدينة (أكثر قليلًا من عُشر مساحة القاهرة، 3085 كم مربع).
"قارة" غزة شريط ساحلي ضيق، البحر في غرب هذه "القارة"، وفيها شارعان رئيسيان يمتدان من الشمال إلى الجنوب (شارع صلاح الدين، وشارع الرشيد)، تصطف بينهما، وعلى جانبيهما، كتل بيتونية يندر أن نرى بينها مساحات خضراء. حتى البناء العمودي، والمخيمات المكتظة، لا تستطيع استيعاب هذا العدد الكبير من الساكنة مقارنة بالمساحة. هنا، لا شيء يفسر كون القطاع الأول كثافة سكانية في العالم سوى ترجمة ذلك إلى كلمة "سجن".
والمتابع لقضم مساحة فلسطين التاريخية، ومنها غزة، سيرى القصدية في هندسة سجن قطاع غزة، حتى في فترة ما قبل "الانسحاب الإسرائيلي" من طرف واحد عام 2005، وإطالة بنيان الجدران العازلة، بل وتسوير الأسوار بسور من المستوطنات أُطلق عليه تعبير رخو متداول هو "غلاف غزة".
الغلاف له قصدية أخرى، أيضًا، ترجمتها إحاطة الغلاف بالخوف من السجانين ـ المستوطنين، وفي الوقت نفسه استخدام هؤلاء السجانين كذريعة للاعتداء على المساجين. وهذا يعني استغلال المستوطنين كطعم، لأن وجود المستوطنين بالقرب من السجناء المظلومين سيغري عاجلًا أو آجلًا السجناء بتوجيه ضربات انتقامية.
لكنَّ الانتقام العابر يبقى استثناء، فبالتخصيص، الفلسطينيون أصحاب قضية وليسوا طالبي ثأر. أول استحقاقات قضيتهم هو حق تقرير المصير، بما في ذلك حق الاستقلال، وتكوين دولة، وما ينضوي تحت عنوان الحل العادل والشامل مع حق العودة والتعويض.
قطاع غزة الآن تحت النار، حتى داخل أيام الهدنة، التي لا يفيد إن تم تمديدها لإطلاق مزيد من عمليات تبادل الأسرى، النار التي أحرقت ودمرت كليًا أو جزئيًا 65 في المئة من بيوتها، تحت النار لأن هدف "إسرائيل" هو الضرب بقوة، الانتقام غير المحدود، والقتل بهدف الإرهاب، الإرهاب التي تريد ترجمته إلى رفض الغزيين لما قامت به حماس والفصائل المقاومة الأخرى يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بل ورفض فكرة أن تحكم حماس قطاع غزة.
في خمسين يومًا، لا شيء تحقق مما صرح به جنرالات الحرب "الإسرائيلية" على غزة من أهداف الحرب سوى الانتقام. وفي إمكانهم تقديم طوفان من الانتقام، ليس فقط من غزة وفلسطين، بل والعالم، إذ لم تفلح أي من المناشدات الدولية، والانتقادات من المجتمع العالمي في وسائل التواصل الاجتماعي، في كبح جماح آلة الحرب التي تتقصد إحداث منتهى الألم للضمير الإنساني باستهداف الأطفال، والنساء، والنازحين ـ اللاجئين، بعد إيهامهم بالهروب إلى مناطق أخرى ليست أكثر أمنًا من بيوتهم الفقيرة. فالفقراء، في السلم والحرب، يدفعون الثمن، وهذا ما يحدث في غزة، مع فارق صغير أن معظم سكان القطاع من الفقراء، على الرغم من جهود برامج الأونروا في التعليم وصحة الأطفال والإعاشة. في حرب غزة غير الأخيرة هذه، بالطبع، كانت حصة الفقراء من الألم أكبر مما يحتمله العقل.





وعلى الرغم من تواجد الإعلام المنظم في كل مكان، وتمكن وسائل التواصل الاجتماعي من نقل ما لا تستطيع قنوات الإعلام المتزمتة في معاييرها، لتصل إلى أبعد مدى، لا يزال الصندوق الأسود للتدمير "الإسرائيلي" للقطاع مغلقًا. في أول يومين من الهدنة استطاعت الكاميرات تقديم صورة مكبرة للدمار، مكبرة لكنها أقل من الواقع بكثير، مكبرة لأن حجم التوحش والانتقام لا تحده مخيلة، ولا يقره حتى منطق الانتقام. ماذا لو أضفنا إلى ذلك أن بعض الدول لا تزال تدعم فكرة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها": هل يعني ذلك أن إسرائيل ستدمر ما تبقى من بيوت غزة، ومعابدها، ومستشفياتها، وآثارها التاريخية، ومدارس الأونروا؟ وهل سيفي ذلك بالوصول إلى أنفاق مترو حماس، وتدميرها على من فيها؟ يستحيل ذلك بعد مرور خمسين يومًا، ولو حاولت فعل ذلك في الأسابيع الأولى من الحرب على غزة لما أمكنها ذلك أيضًا. إذًا، ما الذي سيحقق أهداف "إسرائيل" من الحرب، بعد خمود موجة الانتقام الأولى؟
هنا، نشير إلى أن فكرة الانتقام "الإسرائيلي" معاكسة لفكرة الثأر المتداولة "الثأر وجبة باردة". كما نشير إلى تكرار جنرالات الحرب والسياسة "الإسرائيلية" الإشارة إلى أن الحرب ستكون طويلة، على عكس الفكرة المعروفة عن الحروب الإسرائيلية الخاطفة. انتقام سريع وفوري، وحرب طويلة، لأن من تواجهه "إسرائيل" عدو ضعيف، كما تعتقد، ففي الحروب مع الجيوش العربية لم تكن "إسرائيل" تطيق أن تكون طويلة، لخوفها من أن تنتقل ساحة المعركة إلى "أرضها"، أو الأراضي التي تحتلها. أمامها، اليوم، عدو أضعف منها، لا حدود لأرضه، ولا سماء، ولا اقتصاد، ولا جوارًا جغرافيًا اجتماعيًا مع الضفة الغربية، أو مصر. ومن هنا تأتي طمأنينة "إسرائيل" من إعلان أن الحرب ستكون طويلة.
العقل الساذج يعود بنا دائمًا إلى فكرة كيف استطاعت عصابات صهيونية تأسيس كيان لها بسرعة قياسية، وسرقة الأرض، وتهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني خارج حدود الكيان، وإلى الدول العربية المجاورة. فعند إنشاء الكيان الصهيوني، لم تكن هذه العصابات بتلك القوة، حتى مقارنة مع الضعف والتشتت العربي وقتها.
ما تواجهه "إسرائيل" الآن هو مقاومة لم تكتفِ بعنصري الحق والإرادة، بل أعدت ما تستطيع من قوة. وقد يعمل العقل الواعي على عقد مقارنة تضع قوة المقاومة الآن موضع الجيوش العربية في عام 1948، التي تمتعت بعنصر الحق من دون إرادة، على الأقل في قياداتها، ومن دون قوة، لترجح كفة المقاومة الآن على تلك الجيوش العربية، بما تتمتع به من إرادة، ومن قوة، إضافة إلى خبرة سباق التتابع في قتال عدو تعرفه ولا تهابه. هذا مع عدم نسيان أن قوة حديد الجيش "الإسرائيلي" تضاعفت مرات مقارنة مع قوة عصابات الهاغاناه، وشتيرن، والإرغون، وغيرها، كنواة لجيش الكيان الثكنة.
"قارة" غزة الآن تستدرك ما لم تفعله الجيوش العربية ما قبل 1948، و1956، و1967، و1978، و1982، وتجمع في عقلها الجمعي المقاوم ما فعلته طلائع المقاومة الفلسطينية والعربية والعالمية، خبرة وقوة إرادة وعزيمة تستمد مشروعيتها من حاضنة شعبية، ما قبل تلك التواريخ، وليس التواريخ ذاتها، ففي تلك التواريخ حاولت "إسرائيل" مراكمة الهزائم العربية لتكون انتصارًا لها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.