}

للحزن وزن

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 15 أكتوبر 2023
اجتماع للحزن وزن
تشييع ضحايا مجزرة الكلية الحربية بحمص (6/10/2023/Getty)
السادسة والنصف صباحًا في اليوم التالي لمجزرة الكلية الحربية في حمص، أهرب من الحزن، وأمشي في شوارع باريس، العتمة بنفسجية، فالشمس في حداد على أرواح الشهداء، شباب بعمر الورود تخرجوا شهداء. ألتقي بعمال التنظيف يكنسون الأوراق اليابسة الكثيفة على الأرصفة وتحت الأشجار، أتمنى لو أتحدث إليهم أي حديث. أتابع المشي شاعرة بثقل على كتفي، هو الحزن طرد الملاكين عن كتفي. عادة، كنت أنقل نظري بين الأشجار الباسقة الخضراء، وبين كوم الأوراق اليابسة على الأرصفة، وأقول هكذا هي الحياة: أمل أخضر ويأس أو حزن بني، اليوم لم أنظر إطلاقًا إلى الأشجار، أنصت إلى صوت المكانس تكنس الأوراق الميتة وأحلامي التي طالما كانت عنيدة، لكنها اليوم كشمعة تلفظ أنفاسها بعد أن ذابت من حمل كثير من الدعوات والأمنيات. ثمة مقهى وحيد مقاعده وطاولاته الصغيرة من الخشب، وشاب يمسح الندى عن الطاولات، جلست على مقعد، وهمَّ الشاب بمسح الطاولة المبتلة، فرجوته ألا يفعل، فندى الخشب دموع، قال لي: لم نبدأ العمل بعد، نظرت إليه وقلت: لو تكرمت أحتاج فنجان قهوة، أحسست أنه جفل من نظرتي، لعله أحس بحزني الذي يرشح من مسامي، أحضر لي فنجان القهوة مع قطعة بسكويت. فكرت هل سيتمكن أهالي شهداء المجزرة أن يُقدموا القهوة أثناء العزاء!! فغلاء القهوة فوق طاقتهم. مسحت بحنان على سطح الطاولة بكلتا يدي وقلت لها أشكرك أنك تبكين نيابة عني، فقد جفت دموعي منذ زمن طويل، نبهني الشاب اللطيف أنني ألبس كنزتي بالمقلوب، فضحكت، انصرف إلى عمله في مسح الطاولات والكراسي. لم أكن أفكر بشيء، فالحزن قد حول عقلي إلى عصيدة صلبة لا تفرز شعورًا ولا فكرة، تمنيت أن أكون روبوت. طلبت فنجان قهوة آخر: القهوة في سورية مشروب الحداد. وجدتني أخرج قلمًا من حقيبتي وأكتب على المنديل الورقي للمقهى أسماء المجازر التي حصلت في سورية، يا إلهي كم أنا فاشلة في مواساة روحي المتألمة حتى الثمالة، ودومًا تحضرني أولًا (مجزرة الحولة)، التي راح ضحيتها أكثر من خمسين طفلًا بعمر سنتين، أو ثلاث سنوات، أجسادهم متلاصقة ملفوفة بقماش أبيض وأيديهم البضة وأرجلهم مربوطة بحبل، وبقايا أحلام وذهول على أهدابهم، في ذلك اليوم كنت مدعوة لحضور حفل زفاف قريبة لي، وبعد العرس في الكنيسة حفلة في فندق فخم، كنت في حالة ذهول، أسكن الهول، وصور أطفال الحولة تحاصرني، حاولت الاعتذار، لكن ابنتي ألحت عليَّ أن أحضر العرس في الكنيسة على الأقل.




دخلت الكنيسة ورائحة البخور تُلطف حزنًا في روحي، وكنت لا أعي شيئًا، وقفت في زاوية بعيدة ولم أسمع سوى عبارة: بالمجد والكرامة كللهما. لا أذكر كم مرة ترجع صدى تلك العبارة في روحي، وتحول المجد والكرامة إلى وشاح من حرير يُغطي أجساد مجزرة أطفال الحولة. اعتذرت عن حضور الحفل الباذخ، وتعجبت كيف سيرقص المدعوون ويضحكون وهم في قمة الأناقة وثمة خمسين طفلًا ماتوا للتو!!! عدت إلى البيت، تابعت حلقة من مسلسل "واحة الغروب"، وانتظرت رحمة النوم، لكنني وأنا متكومة كجنين في سريري أحسست بأطفال الحولة حولي، فقمت وكتبت مقالًا بعنوان "قرابين للشيطان". نُشر المقال بعد يومين، ولا أنسى تعليق إحدى السيدات التي لا تفوت كل أحد الصلاة في الكنيسة، قالت لي: أنت لا تفهمين، أنت عاطفية، تأكدي أن أطفال الإرهابيين سيكونون حتمًا إرهابيين. سألتها ببرود: كيف تعرفين؟ قالت: لأنهم يتشربون عقلية وإجرام أهلهم. لم أعلق بكلمة. وكتبت على المنديل الورقي مجازر حلب الشهباء، وكيف كان الإعلام السوري يكتب بالأحمر العريض: حلب تحت النار، وتدفق ملايين النازحين من حلب إلى اللاذقية، والقصص المُروعة التي سمعتها منهم، خاصة تلك التي سمعتها من أطفال حلبيين مُروعين وهم يصفون لي كيف قصف الصاروخ بيتهم، وأحد الأطفال بعمر سبع سنوات بكى وهو يقول لي: خالتو لم أستطع أن أجلب نظارتي الطبية من البيت الذي تهدم. مجزرة تلو مجزرة. أيه طاقة رهيبة لدى الإنسان ليتحمل كل تلك المجازر!!! هل أوصل القهر والهول الشعب السوري إلى حالة من تبلد المشاعر، أو الاكتئاب الحاد، أو اليأس في أعلى درجاته، وما قالته صديقتي: الحمد لله أن هنالك موتًا كي نرتاح من هذه الحياة. ففي وطن صارت فيه الحياة عبئًا ثقيلًا لا يُطاق الموت رحمة.
أية حالة من اليأس والخنوع تجعل إنسانًا يشهد مجزرة مروعة (رآها العالم كله) ألا يُعطي رأيًا، ألا يصرخ، ألا يغضب، ألا يشتم!! ألا ينهار من القهر على موت مئة وعشرين شابًا سيتخرجون من الكلية العسكرية وأهلهم يتابعون الحفل. أن يُصبح الموت في سورية نمط حياة، يفرض علينا كل يوم أن نجدد حزننا، وأن نبدأ يومنا بكتابة لا نهاية لها لعبارة: الرحمة لروحه، والمغفرة لذنوبه، ونتمنى للميت جنان الخلد. ترى ما هي ذنوب هؤلاء الأطفال والشبان وكل السوريين؟ هل الحلم بالحرية والعيش الكريم ذنب؟ لا يتسع وقت السوري ليحزن على ابنه، أو قريبه، أو جاره، لا وقت كافيًا للحزن على عزيز وحبيب، لأن الموت يتجدد كل يوم، نلهث وراء عبارة (الرحمة لروحه) لا وقت سوى لهذه العبارة، لا وقت للأمهات الثكالى لتحضير الطعام، فالشعب السوري يعيش على الخبز، والأمهات الثكالى يقضين وقتًا طويلًا في المقابر يزرعن الحبق على قبور أولادهن، ويسقينه بدموعهن. علماء الاجتماع كتبوا كتبًا هامة عن حالة يأس خطيرة تصيب الشعوب، حيث ينعدم الأمل بوجود ضوء في نهاية النفق. لكن دومًا هنالك احتفالات وإنجازات وانتصارات وصمود وتصد.
أشفقت علي شمس باريس المُتعجرفة، وأشرقت أخيرًا شاحبة، تركت المقهى وفي يدي المنديل الورقي الذي سجلت عليه بتأنٍ ما أذكره من أعداد المجازر في سورية. بقي سؤال يحفر في عقلي: أي إلهام أحس به وزير الدفاع السوري ليترك الحفل قبل دقائق من المجزرة!!! سؤال سيبقى مُعلقًا في ذيل إحدى المُسيرات.

مقالات اخرى للكاتب

اجتماع
15 أكتوبر 2023
هنا/الآن
16 سبتمبر 2023
هنا/الآن
21 يوليه 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.