}

"فتحة ضمة كسرة... هذيان": نزع أقنعة وجوه تخفي الشرّ

أنور محمد 7 أبريل 2024
مسرح "فتحة ضمة كسرة... هذيان": نزع أقنعة وجوه تخفي الشرّ
مشهد من المسرحية
تيه فكري، وتيه مسرحي، هما ما ذهبت إليه مونودراما "فتحة ضمة كسرة... هذيان"، للكاتب والمخرج المسرحي علي صقر، والممثل مصطفى سالم. السينوغرافيا عبارة عن مواد تالفة، وبقايا أثاث وأمتعة لعروض مسرحية سابقة. المسرحية قُدمت في احتفالية يوم المسرح العالمي على خشبة المسرح القومي في طرطوس.
علي صقر المشاكس المشاغب حامل السلَّم بالطول والعرض مسَّ قضايا اجتماعية وسياسية، وحتى جنسية، في مسرحية "هذيان": نَقدَها، هَجاها، سَخِرَ منها. لكنَّه لم يصلْ، ولم يحقِّق الفعل المسرحي على الخشبة. لا يكفي أن نحكي ونسرد كيف عشنا الطفولة؛ كيف شاهدنا صورنا من ثقب صندوق الفرجة، كيف اختلطت غريزتنا الجنسية مع العاطفة في حبِّنا لمعلمة الصف، كيف قاومنا الجوع والفقر والتهميش، واستحمار أنظمتنا لإنسانيتنا، وكيف ذهبنا إلى الحرب من دون سيف، أو حصان، حرب دفعت السوريين إلى الهرب منها في جهات الأرض، والذين لم يهربوا كانوا من الأطفال. صرنا نتمنى أن يقف الزمن فلا يكبروا، وتسحبهم دولٌ مثل الإمارات، أو أربيل العراق، بحثًا عن لقمة خبز.
المخرج صقر، رغم ما أثاره من قضايا الحرية والكرامة الإنسانية المهدورة في هذياناته، إنَّما كانت هذيانات كتابةً وإخراجًا مشغولةٌ بحدسه الوجداني، حيث كانت جاهزة في ذهنه، ولكنَّها في العرض بدت توليفة لغوية عن الأزمات التي يعيشها السوري تحت وطأة حربٍ بدأت ولم تنته. بل تتفاقم. هنالك إشارات إلى صراع اجتماعي واقتصادي، وحتى جنسي، وشجاعة في التعريض والتعرُّض لها، لكن الفعل كان شكلانيًا ـ قد يبدو أنَّ المخرج يتفلسف، إلاَّ إنَّه كان كمن يُعلِّق؛ كان مُعلِّقًا مُتهكِّمًا على أفعالٍ أخذت مسارًا سرديًا حكائيًا. سردٌ من زمن؛ أزمان، لكنَّ أزمانه كانت فكرة، وليس زمنًا يتعاقب يومًا إثر يوم، وسنة بعد سنة، فلم يستغرق سوى زمن العرض (35 دقيقة)، فلم نشعر بأنَّنا جزء من استمرارية الزمن التاريخية. أما الممثِّل مصطفى سالم فيؤدِّي دوره/ أدواره المفترضة بشكلٍ اندفاعي، هو المُتأذي والمقهور، والذي يفترض أن نتابع (هَسْترَتَه) وهذياناته، إنكاره، نكوصه، إسقاطاته حسب الشخصية وما تعانيه من قهر وظلم وضغطٍ نفسي وامتهانٍ لكرامتها الإنسانية. مثل هذا الدور، وكونه (ذهنيًا)، حرمنا من مشاهدة صراعات فعلية مُجسَّدة على الخشبة. الممثِّل عليه أن يثير فينا قلقه (المعرفي)، وآثاره على جسده المسرحي، وهو قلق لو أداه تمثيلًا بشكل جيد لترك تأثيرًا قويًا على المتفرِّج. لا تكفي اللغة/ الحوار لتقوم بدور الدال والوصف والتعبير؛ فاللغة في العرض المسرحي كانت استفهامية، أو تعجبية، أو أمرية؛ فهي قولٌ ليُنجزَ فعلًا.




المُؤلِّف المُخرج علي صقر اكتفى ـ وهذا ما أدَّاه الممثِّل مصطفى سالم ـ بأن يضعنا مع لغة وصفية عما نعانيه من قهر سياسي واقتصادي، من دون اعتبار لوظائف جسد الممثل الذي كل ما قام به هو التحرُّك في فضاء الخشبة، وهو يلقي حواره بضمير المتكلِّم، ليرينا أفعالًا إنشائية من دون الأخذ بشروط الحوار المسرحي المنطقية تمثيلًا، واللغوية إلقاءً. العرض طرح مقولات أنَّ البشر يعيشون ذلًا ويأسًا وألمًا، وقد وصلوا إلى حافة الجنون، وهذا نسمعه ونقرأه ونعيشه، حتى باتت أسطوانة مشروخة، لكن هذا لا يكفي؛ أين القوَّة الأخلاقية التي تتجسَّد فعلًا على الخشبة، والتي تدافع عن الإنسان، فلا يَضعَف وتخور قواه النفسية، وحتى العقلية أمام جبروت المستبد.
الحركة في المشهد المسرحي ليست في مدِّ الرأس من فتحة إطار السيارة المعلَّق وسط الخشبة كضحية تمَّ تنفيذ حكم الإعدام فيها شنقًا فتوقَّف عن الدوران، أو باعتبار أنَّ الفتحة هي إشارة إلى نافذة جهاز إرسال تلفزيوني، أو إشارة إلى منبر للخطابة، ولا بضمِّ واحتضان الدمية التي ترمز إلى كيان إنساني كونها شخصية في العرض، ولا النوم بعد الانتهاء من الإلقاء إيذانًا بانتهاء العرض. الحركة هي النشاط الجسدي على الخشبة مقترنًا بانفعالات نفسية تعقبها أفعالٌ ـ أحداثٌ وتصرفات نبيلة، أو رعاعية خسيسة، فنرى العقل والوجه الآخر للعقل؛ نرى الجنون. والجنون في هذه الحالة ليس المرض العقلي، فالعقل (طق) من لا معقولية ما نعيشه، وهذا ما أراد علي صقر قوله. هو يتحدَّث بلسان عقله الذي ينوب عن عقلنا، من طيٍّ للقانون الأخلاقي الفطري الذي يُشرِّع باحترام إنسانية الإنسان فلا يجوع ولا يُذل ولا يُباع بالجملة في أسواق النخاسة.
المخرج علي صقر في مرثيته هذه "ضمة فتحة كسرة... هذيان" يقوم بنزع الأقنعة عن الوجوه التي تخفي شرورها ومكائدها فتوقع بنا كل هذه الوقائع منذ الاستقلالات الأولى إلى احتلال فلسطين، فالاحتلالات التالية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.