}

دراما سورية: في تمجيد الشرّ

أنور محمد 14 أبريل 2024
أجندة دراما سورية: في تمجيد الشرّ
من مسلسل "تاج"
من دراما سورية تُخاطب مجتمعًا إنسانيًا عربيًا في القرن الفائت، صراعاتها ترتكز وتنتصر لقيم العدالة والحريَّة، ولا تنسى فلسطين، إلى دراما تُخاطبنا على أنَّنا (مجتمعات من الحشرات). دراما تفترض، أو هي تُقيم حربًا لِقَمْعِنا، فتنشر أمراض الكراهية والشذوذ والانحراف، وتروِّج للمخدرات، وتسوِّق الجرائم بأنواعها، وتهلِّل للكوارث والفواجع وبشكل قصدي ـ أي أنَّها تتعمَّد ذلك حتى تميِّع الجوهر والدور الأخلاقي للدراما، مثل: مسلسل "تاج" (تأليف عمر أبو سعدة؛ تمثيل: تيم حسن بدور تاج، بسام كوسا بدور رياض بك الجوهر، باسل حيدر بدور شكري القوتلي، كفاح الخوص بدور سليم، فايا يونان بدور نوران، جوزيف بو نصار بدور الكولونيل جول... وآخرين، إخراج سامر البرقاوي). وهو عن ملاكم في فترة الاحتلال الفرنسي لسورية اسمه تاج ـ وكأنَّ هذه الفترة تحوَّلت إلى بيضة، أو إلى منجم ذهبي للكتَّاب وشركات الإنتاج التلفزيوني، فاستثمروها وما يزالون، وقد أذاق فيها السوريون في معظم المسلسلاتِ الاستعمارَ الفرنسي دروسًا لن ينساها، حتى إنَّ فرنسا ستفكِّر ملايين المرات في الثمن الذي ستدفعه لو قرَّرت احتلال بلد ما، بل إنَّ فرنسا، وكذلك بريطانيا، ستقومان بنفي وتكذيب التاريخ الذي يشير إليهما كدولتين احتلتا العالم فيما مضى وروعتا شعوبهما قتلًا وتدميرًا!!!
تاج، أو المقص، هذا الذي يُجيد لعب فنون القتال/ الملاكمة معشوق النساء، سيجد نفسه متَّهمًا بعمالته للفرنسيين، وما عليه إلاَّ أن (يُجاهد) ويتحوَّل إلى مناضل لتبرئة نفسه، فنراه يعمل في السر ضدَّ الفرنسيين ليفصل بين دور الخائن الذي يلاحقه كلعنةٍ وتهمةٍ وبين دور البطل.
وهناك مسلسل "نقطة انتهى" (كتابة فادي حسين، تمثيل: عابد فهد بدور الزوج فارس، ندى أبو فرحات بدور الزوجة كارما، عادل كرم بدور المحامي، أنس طيارة، محسن غازي نقيب الفنانين السوريين، تيم محمد، خالد السيد، جورج شلهوب، وفاء طربية... وآخرين. إخراج محمد عبد العزيز) عن زوجين صيدلانيين، يرتكب الزوج فارس بالخطأ جريمة قتل شقيق زوجته المُراهق، ويحاول إخفاءها، فيما تسعى زوجته إلى كشف حقيقة مقتل شقيقها الوحيد، وتتعرّض حياته للخطر، فيقع بين أيدي عصابات وسياسيين يبتزونه، وتتحوَّل فيها عائلةٌ سوريةٌ مقيمةٌ في بيروت هربت من الحرب إلى رهينةٍ عند العصابات، كون الأحداث تقع على أراضيها، سيما وأنَّ المجتمع السوري خالٍ تمامًا من مثل مافيات الجريمة هذه فمثلوها في لبنان، فمن شركٍ إلى أفخاخ في محيط بوليسي أحداثه مُفتعلة، إذ كُلُّ الناس مهزومين ومستعبدين ومعرضين للإرهاب عند العصابة التي تنتصر للشر، أو إنَّ الشرَّ هو الذي يكسب. ما يضطر الزوج عابد فهد للإذعان، فيقرِّر، ويضع تلك النقطة (انتهى) فأوَّل السطر.
ثمة في رأيي استسهال في بناء الدراما على رخصها وسوقيتها في مثل هذه الأعمال، فمن استغباء المُشاهِد وتسميم وعيه كونه مستهلكًا لمثل هذه الدراما خاصة في شهر رمضان، كأنَّ مَنْ يُنتجُونها يُنفِّذون أجندات قصدها نشر وتسهيل وتسويغ الأنانية والعنف والقسوة والطمع والجشع والانتقام وممارسة أفعال الشر اللامحدود والمُطلق، ولا من قوانين تعاقبهم وتردعهم.




بدل تلك الدراما التي أُنتجت في الستينيات والسبعينيات، وحتى العقد الأوَّل من القرن 21، التي كانت ترقى بحس الإنسان وكرامته الوطنية مثل:"حرب السنوات الأربع"، "بصمات على جدار الزمن"، لهيثم حقي، وكتابة داوود شيخاني. "الموت القادم إلى الشرق"، كتابة هاني السعدي، وإخراج نجدة أنزور، فانتازيا تاريخية عن عصابة من قطاع الطرق ـ في إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي، وتسلُّلِهم إلى فلسطين، ومن ثمَّ مقاومة وتصفية أعضاء العصابة بأيدي الوطنيين، سيف ورفاقه، وليس كما في مسلسل "نقطة انتهى" الذي يسهِّل ويشجِّع على الجرائم. "عز الدين القسَّام"، كتابة أحمد دحبور، وإخراج هيثم حقي. "نهارات"، كتابة فواز عيد، وإخراج محمد زاهر سليمان. "التغريبة الفلسطينية"، كتابة وليد سيف، وإخراج حاتم علي. "الاجتياح"، سيناريو رياض عودة سيف، وإخراج شوقي الماجري. "رسائل الحب والحرب"، تأليف أمل حنا، وإخراج باسل الخطيب. "هدوء نسبي"، كتابة خالد خليفة، وإخراج شوقي الماجري. "الدوامة"، سيناريو وحوار ممدوح عدوان، وإخراج المثنى صبح، وغيرها. دراما تتأسَّس على العلاقات الاجتماعية الإنسانية التي تتطوَّر؛ أي دراما الحياة والأخلاق إلاَّ إذا تمَّ استخدامها لأغراضٍ عدائية لغسيل أموالٍ وأدمغةٍ كما نلحظ في معظم الدراما السورية بعد حرب 2011. دراما تصرُّ على تحقير وتتفيه الأهداف السامية للإنسان في أن يعيش في وطنٍ آمن يمارسُ حريَّته السياسية والاجتماعية بحماس. دراما خالية من النواة التراجيدية؛ دراما تُمجِّدُ الشرَّ، تُحرِّضُ الغرائز والشهوات، وتثير مشاعر اليأس والقنوط والاستسلام.
التراجيديا أو المآسي التي تصنعها المسلسلات السورية في رمضان 1445هـ 2024مـ لا تقوم على تناقض وتصادم المبادئ الأخلاقية، وهذا أسهل وأبسط قوانين التراجيديا، بل تقوم على المكر والمكائد وتبرير قضم الأخضر واليابس في الممتلكات والمال العام والخاص، وعلى تحويل أجسادنا جلودًا لمدابغ صانعيها كأنَّهم من عيلة "ولاد بديعة": وَلَدان شرعيان سُكَّر ومختار، وآخران هما أولادُ زِنا ـ توأمان ياسين وشاهين، كتابة علي وجيه، ويامن الحجلي، وإخراج رشا شربتجي (تمثيل: سلافة معمار بدور سُكر الراقصة، ومحمود نصر بدور مختار المجاز في الحقوق، ويامن الحجلي، وسامر إسماعيل، إلى جانب تيسير إدريس، ديمة الجندي، محمد حداقي، لينا حوارنة، نادين تحسين بيك، نادين خوري، فراس إبراهيم، روزينا لاذقاني، وفادي صبيح الذي يؤدِّي دور الأب عارف الدباغ والد أولاد الزنا من علاقة غير شرعية مع عاملة عنده في المدبغة ـ إمارات رزق ـ وهي امرأة مختلَّة عقليًا). يموت الأب عارف وتبدأ المعارك بين الأخوة الأربعة؛ جرائم قتل تصل في إحدى الحلقات إلى أكثر من عشر ضحايا، ولا من يحاسب القَتَلَة، إلى جانب القيام بأفعال الاغتصاب، والتهريب، ولا من دورية أمنية تستوقف المهربين، مع أنَّه بين كل شارع وشارع في هذه الحرب حاجز تفتيش.
"ولاد بديعة" مسلسلٌ صُورَتُه محشوَّةٌ بفعل الكلام، فما يُسمع أكثر ممَّا يُرى، والذي يُرى حركاتٌ فجَّة لوحوشٍ وليس لبشرٍ؛ كأنَّ المُؤلِّفين والمُخرجة غيَّروا من طبيعة أدوار الشخصيات الآدمية، وحولوها إلى طبيعة الحيوانات الضارية يحطِّمون كلَّ حدودِ الصورةِ: الظلُّ والضوءُ/ الإضاءة، يمحون العمق، ودائمًا مع بُعْدٍ أوَّل، مع أجسامٍ تتكلَّم ـ لا تتحاور، وتتعارك ـ لا تتعانق. ثمَّ لماذا تمَّ حشو حادثة اغتيال السياسي الوطني عبد الرحمن الشهبندر، والظهور الخاطف للرئيس شكري القوتلي من دون مبررات فنية، أو فكرية، مع أنَّ تاريخهما السياسي يشهد بوطنيتهما، كأنَّها مقصودة وغير بريئة. ثمَّ إنَّ الصورة/ المَشَاهِد أغلبها بدون علامات كثيفة أو ثرية الدلالة. بل مع صورة مباشرة مُسطَّحة لا واقعية ولا تعبيرية. بل صورة خارقة فارقة في الدراما السورية لا تسمية لها، بعكس الصورة التي اشتغلها هيثم حقي، أو سمير حسين، أو باسل الخطيب؛ صورة من تركيب هندسي وبناء لوني وحركي نغمي. لماذا هذا الخيار الفني والفكري، لماذا شغل هكذا مسلسلات ونحن أحوج ما نكون إلى دراما من إبداع الروح والعقل، تحترم إنسانيتنا التي تقوم إسرائيل بإهانتها متحدية العالم وهي تدمِّرُ الحجرَ على البشر في غزَّة. هل اندحرت المخلوقات الخيِّرة إنْ في الواقع، أو في المسلسلات، فصار البشر مخلوقاتٌ شريرة؟ اشتباكات، ضربٌ ومحوٌ وسحقٌ بين البشر وقد تحولوا إلى أفراد عصابات، الدماءُ بينهم وبيننا بلا ثمن، والقتل بلا مبررات أخلاقية، أو قانونية، إلاَّ إذا أخذت هذه الأفعال شرعيتها من أفلام (الكاوبوي) الأميركية. هل هذه هي سورية، أو بلاد العرب التي تُصوّرها المُخرجة رشا شربتجي؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.