}

"دوغا في الأوبرا".. لحظة رفع الستارة

تشكيل "دوغا في الأوبرا".. لحظة رفع الستارة
صورة ذاتية لإدغار دوغا ولوحة الانتظار
تُرفع الستارة فقط عندما تَنسدل في الجهة المقابلة.

في إحدى ليالي منتصف مايو/أيار 1874 مباشرة بعد انسدال الستارة على أول معرض انطباعي؛ على طول الطريق المؤدي من نهاية مونمارتر إلى صالة فونتادور الواقعة في الدائرة التاسعة حاليا بباريس التي عوضت مؤقتا أوبرا بالوتييه، كان الرسام إدغار دوغا (1834-1917) يستمتع داخل المقطورة بموسيقى وقْع حوافر الخيل على البلاط، ناظرا بعيونه تارة إلى حركات أعناقها الطويلة وسيقانها الرشيقة الدائرة في حركة لولبية متكررة، وتارة أخرى شاخصا ببصره بعيدا من خلال زجاج النافذة إلى الحلبات التي دشن فيها ريادته لسباقات الحداثة؛ كحوذي ألمعي على ظهور الخيول التي اشتهر بترويضها، على سطح لوحاتٍ أولمبية حرصت ملْونته الباذخة على تدوين سرعة حركاتها المتواترة، بهياكلها العظمية المتوثبة المتنكسة في الفراغ كفخاخ هائلة، ولحوم عضلاتها المنقبضة المنبسطة على التوالي، كما لو نشاهد "فيلما وثائقيا استعراضيا مقطعا بالعرض البطيء". لكن النجاح في مرمى دوغا لا يعني شيئا آخر سوى خيانة النجاح حسبما يقول في مذكراته: "الفن ليس علاقة شرعية، نحن لا نتزوجه، بل نغتصبه".
شيئا فشيئا بدأت معالم البناية الشامخة المتلألئة ترتسم في الفضاء الممتد، بحركة ظلال شخوصها المريبة أمام البوابة. كما خفّت حدة موسيقى وقع حوافر الخيول المتمهلة الآن في عدْوها على حصى البلاط المرصوف، وتحددت تدريجيا الأصداء والأصوات المنبعثة المخفوقة في صحن الظلام بعذوبة متباطئة مرحِّبة. شعر حينها دوغا بغتة أنه يتزحلق على عضلة قلبه المديدة المنطرحة على قارعة الطريق قبل أن يقع على رأسه، لتهبّ إلى نجدته فتاة في الرابعة عشرة من عمرها بمنديلها المطرز حضرت للتو لاجتياز اختبار الرقص رفقة والدتها. عندما استفاق من غيبوبته وجد نفسه مباشرة أمام مدخل الأوبرا يعضّ على مخدة رخوة، وانفتحت بشكل تلقائي درفتا باب المقطورة التي تقِلّه. قبل أن تطأ قدمه المتأهبة المتسارعة الضوء الشفيف الذي يغلف الأرضية بغلالة هشة بليلة؛ تملّكه شعور غريب غير مسبوق أنه يترجّل - للمرة الأخيرة - من عربة الانطباعية؛ تلك العربة القروية المهرولة بعجلاتها الهاذية التي اضطر إلى استعمالها في مشاويره السريعة أو نزهاته القصيرة رفقة الأصدقاء أو العائلة في نهاية عطل الأسبوع المشمسة.
ألقى دوغا نظرة آسيانة على العربة المستعارة المغادرة وحيدة في ممرها المسجى اللامتناهي، بعجلاتها الثملة التي تكاد تنخلع عن إطاراتها الحديدية، مودِّعا خيولها الحزينة التي بدت سيقانها الطويلة مجاديف نحيلة تصارع الغرق في مياه ضحلة؛ فيما واصل الليل العدّاء الركض في الممر الهامشي الملاصق، وحيدا أيضا تحت القمر الذي أدار للعالم أكثر مما ينبغي خدوده الباردة.
تذكر جملة مشاغبة لا يعرف متى نحَتها: "بحبّنا للطبيعة، لا يمكننا أبدا معرفة ما إذا كانت ستبادلنا إياه" تتصادى بروعة مع وصية معلّمه أنغر المحفوظة عن ظهر قلب بخصوص الصباغة غداة اللقاء الوحيد الذي جمعهما "أبدا من الطبيعة بل من الذاكرة". أخرج ساعة الجيب من بنطاله للتأكد من دقة موعده في صالة بالوتييه حيث ينتظره صديق العائلة المقرب عازف الباسون ديزيريه ديهو، حريصا كعادته أن يحافظ على "جِديته حتى في أماكن اللهو"؛ لا سيما وأنه لم يكن مجرد موعد اعتيادي وحسب، لكنه يفتتح مرحلة فاصلة في مسار دوغا المهني؛ يعتزل فيه سباقات الانطباعية في الهواء الطلق (رغم الاستمرار في التواجد في معارض الانطباعيين بأعماله المنشقّة)، "مسكونا – كما يقول – برؤية مجنّحة، ليس على أساس ما فعله، بل ما يمكن فعله في قادم الأيام"، مكرِّسا  نفسه هذه المرة لعشقه القديم المتمثل دائما في الأوبرا بعد توقيعه لأحد أجمل لوحاته "أوركسترا الأوبرا". 

لوحة "أوركسترا الأوبرا" 

















لوحة "أوركسترا الأوبرا" محفورة في ذاكرة دوغا جيدا بأدق تفاصيلها: في حبكة تصويرية ذكية تتمحور حول بؤرة مشعة بين قوسي كونتروباس يحتلها بأبهة عازف الباسون ديزيريه ديهو "في وضعية ضوئية منحرفة قليلا"، استطاع دوغا ببراعة شحذ أكبر عدد من العازفين في مقصورة الأوبرا في إطار شبه فوتوغرافي محدود للغاية بحيث لا نرى سوى الجانبية الرفيعة أو الضائعة لوجوههم المشدودة الرصينة المائلة على الآلات الموسيقية بتركيز العيون المصوبة في اتجاه موحد؛ يسلط الضوء – عبر إيحائية تحويل الأنظار المراوغة – على تدفق الموسيقى والإحساس في الذروة نحو نقطة لامرئية متمثلة في المايسترو المحذوف جماليا لإرغام المشاهد على إتباعه، مثلما حذفت أيضا الأجزاء العلوية من أجساد الراقصات في الأعلى، ولم يَحتفظ سوى بالتنانير المنفوشة. لعلها بلا شك تميمة حظ الأيام القادمة.
بينما كان دوغا يهمّ بدخول المبنى برأسه المشتعلة كالثريا، وأياديه المستريحة المطمئنة في جيوب معطفه على وجود عدة الرسم الشحيحة، التفت قليلا إلى الوراء وشيّع قوافل الليل الهائمة ملاحظا بشيء من الأسف أن الأحزان تَرِد دائما في الطبيعة فرادى، ثم هجس على الفور بفكرة معاكسة متحدية للنواميس مفادها أن الفرح الإنساني غالبا ما يطرق الأبواب ويقتحم العتبة محتشدا؛ حالما أصبح دوغا داخل الأوبرا لحظةَ رفعِ الستارة... بالثانية.


كانت الصالة تغرق بكاملها في ظلمة مصطنعة قاتمة، بحيث تحولت مدرجات المتفرجين المتوافدين لحضور العروض المسرحية المتنوعة إلى كتلة هائلة متموجة سوداء كثيفة، بالكاد استطاع دوغا أن يميز منها مراوح النساء الزاهية المضطربة في الأيدي، كما لو تهش العتمة عن عيونهن الشاخصة ببؤرة الضوء المعلقة أعلى الخشبة. أخذ مقعده المحجوز سلفا بين المقاعد الأولى على الشرفة المطلة مباشرة على الجوقة الموسيقية المتأهبة بأقواسها المرفوعة المستثارة حتى يتسنى له مراجعة وإخضاع لوحة "الأوركسترا" المستنسخة من الذاكرة لاختبار واقعي مباشر. دعك كالأطفال عينيه بيده جيدا مباشرا تمرينا بصريا جديدا، ومسح بنظرة فوقية مديدة متباطئة شموليةَ المشهد كله، حيث بدا كل شيء بما فيه الخشبة العائمة في الضوء، الكتلة البشرية القاتمة المتموجة، مقاصير الممثلين في الأعلى، الكواليس، حجرة التدريبات، الجوقة الموسيقية، الدرابزين، الممرات، الشرفات العالية، وأعمدة النور المنضدة... كل شيء بدا ماثلا بمحض إرادته في الاستمرارية المنصوص عليها سلفا، في انخطاف مشهدي يتدرج بسرعة قصوى من الضوء إلى العتمة، ومن الحلكة إلى السطوع المبهر. تنفس دوغا الصعداء واخترقه تيار من الارتياح العميق لا يشعر به على عكس أصدقائه الانطباعيين سوى في الأماكن المغلقة.
الأماكن المغلقة في معجم دوغا تعني "المضيئة"؛ لأنها وحدها في استطاعتها كسر الإيقاع المتسارع المستبد الذي يفرضه ضوء النهار. لهذا كان يشعر دائما أنه ليس مدينا سوى للإضاءة الاصطناعية على غرار إنارة الغاز التي حلت محل الإنارة بالزيت. هنا في هذا المكان بصالة فونتادور التي تعوض مؤقتا أوبرا بالوتييه التي تمّ انشاؤها خصيصا من طرف الأكاديمية الملكية للموسيقى عام 1828 لاختبار استعمال غاز الإضاءة في مسرحية "علاء الدين والمصباح السحري" من خلال تصميم إكسسواراتها ومشاهدها الطليعية تمهيدا لتعميم مشروع الإنارة... في هذا المكان حجز دوغا الشاهد على أغلبية هذه الأحداث مقعده للعمل كرسام، لشبه إقامة فنية مؤقتة غير مشروطة، وأكثر من أي شيء آخر للاستنارة بأكبر قدر ممكن حتى "يتمكن من ممارسة الرسم في الداخل للتعرف على الحياة الحقيقية"، وتحقيق أمنيته أخيرا "بالرؤية من خلال ثقب المفتاح" أو بالأحرى من فوّهة مصباح علاء الدين السحري.
لم يكن في حوزة دوغا كعادته سوى قلم رصاص مبري بعناية وكرّاس صغير لا يفارقانه. وكثيرا ما شوهد هذا القلم السحري في أوقات الفراغ والاستراحة يتمرّن بين أصابعه على حركات بهلوانية عفوية يأتيها برشاقة متناهية، بحيث لا يستطيع إدغار نفسه أن يجزم إن كان القلم من يبادر أولا باستعراض حركاته متبوعا بأصابعه أم أن الأصابع الممسكة بالقلم من تستثير حركاته؟ لكن هذه الليلة بالذات لاحظ جميع مرافقيه بذهول أن عيون الرسام عالقة لا تحيد تتابع بفضول كبير عرضا مسرحيا للباليه، فيما قلم الرصاص باليد ينقل ويقلد بحرفية عمياء إيماءات وحركات راقصات الباليه "المتناثرات كالنوتات على مدونة موسيقية هائلة"، ذارِعا الطاولة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بوثباته وشقلباته وسرعة دورانه في الفراغ. عندما سُئِل "لماذا أضاع على نفسه وعليهم فرصة تنزيل الباليه مباشرة على الورق؟" أجاب بأنه كان "مجرد تسخين على رقصة فالس ساخنة"، و"ثمة فرق شاسع بين رؤية شيء ما بدون قلم رصاص في اليد، ورؤيته من خلال رسمه، أو بالأحرى، إنهما شيئان مختلفان للغاية نراهما. وأكثر الأشياء المألوفة بالنسبة لنا يصير مختلفا تماما، حالما نشرع في الخربشة كأننا لم نره مطلقا". لذا "فمن المهم نسخ ما نراه، لكن الأهم رسم ما يمكنك رؤيته فقط في ذاكرتك". لأن "الرسم ليس هو الشكل، إنما طريقةَ رؤية الشكل". كما أننا "نرى كما نريد نحن الرؤية. إنه تشويه. لكنه التشويه الذي يشكل الفن" بحسب دوغا دائما.
عند هذا الحد نهض دوغا من مقعده بمعدة متخمة تحتاج إلى الحركة لهضم ما تناولته من أطباق الجمال الدسمة في العشاء الأوبرالي، وأراح قلم الرصاص في جيب معطفه الداخلي مودعا أصدقائه، بهمة صائد مترصد لا يستفزّه غير الإسراع للاستمتاع بتحرير فرائسه العالقة. طول طريق العودة الذي قطعه راجلا متدحرجا بخفة وراء الصور الهشة الحديثة الولادة، المتطايرة أمام خطواته الهاذية متعجلة الفرار إلى محترفه في مونمارتر مخافة التبعثر والتلاشي تحت حفيف الأشجار؛ كان يفكر في شيء محدد في ذاته بلا أعداد فردية أو زوجية: إنه لا يمسك الآن فقط "بخيط ولن يفلته" كما يحدث معه دائما، إنما بكبة من الخيوط المجنونة عثرت فيه على قطها المشاكس الذي لن يتأخر في إطلاق سراحها بالتتالي خيطا خيطا في كل الجهات.
بمحترف دوغا بنيو أورليانز المحاذي لأقاربه من جهة الأم، حيث كانت تتجاور أغلب أعماله مع أعمال معلميه الأوائل أمثال دولاكروا وأنغر، وأعمال الطليعة لمانيه، بيسارو، سيزان، وموريسو، دون إهمال جيل الشباب كغوغان و فان غوغ وغيرهم... في هذا الفضاء المفتوح الذي أراده إدغار متحفا فنيا فرديا جامعا للحساسيات الرائدة المتقاربة تعذر عليه تحقيقه لكنه أفلح في مواصلة العيش فيه وفقا لأمنيته العزيزة في "أن يكون مشهورا ومغمورا" في آن معا؛ رجع دوغا في ساعة متأخرة محملا بكبة الخيوط الهائلة وذاكرته الخصبة المتوقدة التي لم تكتف بالعمل حتى الفجر كآلة نسخ تنقل الواقع حرفيا مستخدمة تقنية التصوير الشعاعي، إنما كمحطة توليد للطاقة الكهربائية: عبر تحريك عقدة الخيوط التي بحوزته أو بالأحرى أنشوطة الأسلاك التي تتولى قيادتها "محركات" رسومات قلمه الأسلوبية المتكررة إلى ما لا نهاية، ليتم تغذيتها "بالمزيج الكيميائي" الناتج عن "احتراق" الضوء واللون لتوليد شحنة كهربائية متجددة، داخل فضاء اللوحة الموقعة بدقة مليمترية، بحيث "لا يبدو – فيها - أي شيء حادثا عرضيا، بما فيه الحركة"؛ لأنها "عثرت على التشكيل الذي يرسم عصرنا" (دوغا).

لم تكن هذه الكيمياء التي عثر عليها دوغا وليدة صدفة عابرة أو ضربة حظ عمياء، إنما كانت تتويجا "لتمارين الدقة" التي دأبت عليها ممارسته الطويلة التي ابتعدت عن التمثيل الواقعي أو المحاكاة "لإبداع نسخة الأوبرا الخاصة" بها وحدها. بمقتضى هذه الكيمياء الساحرة تحولت في لوحاته "عناقيد الراقصات" المتناثرة على طول خشبة المسرح أو في حجرات التدريبات بهياكلهن العظمية النحيلة التي تكسوها فقط تنانير التوتو القصيرة، بطبقاتها المجدولة من التول والتارلتان والشاش الملبّس إلى موكب من اليعاسيب المضيئة المحلقة بأجنحتها الشفافة الهشة الحائمة على امتداد مجاري الينابيع المتدفقة الرائقة، عازفة بعلاماتها الموسيقية المتلاشية في الفضاء سمفونية "قداس الربيع". "الزوايا المتعددة الجريئة" وغير المعتادة التي التقطها دوغا لم تقتصر على المشاهد الاحتفالية، لتشمل حصص البروفات الساخنة في حضور المدرب العجوز بعصاه الموبخة وسط حشد من الراقصات المنهمكات في التدرب على أدوارهن المختلفة في وقت واحد، أو لحظات الاسترخاء والراحة بعد عرض متعب تتخفف فيه الراقصة الصغيرة من خفها اللاصق مستعيدة لامبالاتها الطفولية، أو النوافذ المؤطَرة بعذوبة بأشباح الراقصات المنمحية في الظل، أو المشهد المؤثِّر لراقصة الباليه المتوعكة تدلك في يأس كاحلها المصاب.  
في عام 1885 أصبح دوغا "مشتركا لمدة ثلاثة أيام" في الأوبرا، مما سيتيح له الولوج إلى خشبة المسرح وقاعة الرقص، وحرية الحركة داخل الكواليس والمقاصير. ما بين 21 فبراير/شباط 1885 و19 سبتمبر/أيلول 1892، زار إدغار الأوبرا 177 مرة. لقد شاهد، بشكل خاص، خلال هذه الفترة، 37 مرة أوبرا "سيغورد" لرييير، و15 مرة "ريجولتو" لفيردي، و13 مرة "كوبيليا" لليو ديليبيس، و 12 مرة "ويليام  تيل" لروسيني...



لكن توطيد العلاقة مع دار الأوبرا لن يفيد دوغا بشيء في التعرف على عروضها المتنوعة التي يحفظها سلفا بحكم ثقافته الموسيقية الواسعة وتربيته الأرستقراطية، بقدر ما سيتيح له كشف الوجه الآخر القبيح للتطريز وتعقبِّ حركة الأنامل الخفية الدامية المطرِّزة بإبرة بلا كشتبان. هكذا سينتقل بحركة رشيقة من الاحتفاء "بالعالم المصغّر" الذي تمثله الأوبرا، براقصاته وعازفيه وبهلوانييه وممثليه إلى سرد الدراما الصامتة التي تختفي وراء الستارة القاتمة في إيمائية رمزية مكثفة تحافظ على الحياد أولا وأخيرا؛ بحيث سيتراجع الأداء الأبرالي لرسومات راقصات الباليه بحركات الأيادي الدائرية المرفوعة وتنانير التوتو المنفوشة في الهواء إلى جرد جمالي متقشف للغاية للتفاصيل الصغيرة التافهة الموثِّقة لفضيحة أخلاقية مسكوت عنها متمثلة في الاستغلال والمتاجرة بأجساد القاصرات خلف زي الرقص. بعدسة كاميرا متموضعة على مسافة نقل لنا دوغا المتخفي بشكل متسلسل وبطيء المأساة المحبوكة التي كانت الأوبرا مسرحها وراحت ضحيتها أجيال من الفتيات الصغيرات؛ ابتداءً من المشهد الافتتاحي لقدوم الصبية رفقة والدتها المتجهمة إلى دار الأوبرا بذريعة اجتياز اختبار الرقص في مشهد الانتظار الممضّ الذي يشي بدراما وشيكة تترجمه حركة الأم الممسكة بقسوة بمظلتها السوداء المترقبة لانهمار قدرٍ عاجل وحركة الطفلة التي تمسّد قدمها في إشارة إلى عدم استعدادها، مرورا بالحركات المريبة للعشيق خلف أعمدة النور بانتظار انتهاء العرض المسرحي لمحظيته الراقصة، وانتهاءً بالمفاوضة الداعرة على السعر التي تشترك فيها الأم "القوادة" والعشيق، فيما تبدو الراقصة المنمحية خارج اللعبة مستسلمة لقدرها المقرر سلفا.



المنحوتة الوحيدة المعروضة في حياة دوغا بمعرض الانطباعيين 1881 بعد أن تردد في عرضها في الدورة السابقة ليظل مكانها شاغرا أثارت ضجة كبرى في الوسط الفني: فتاة في الرابعة عشرة من عمرها بشعرها الحقيقي المضموم إلى الوراء بشريط الساتان الحقيقي، ترتدي تنورة توتو حقيقية، وخُفّا حقيقيا أيضا، ومشدا نسويا حقيقيا معقودا حول خصرها، وطلاء من الشمع يغطي جلدها يبدو واقعيا ومريعا معا؛ وتنتصب في وضعية رياضية صعبة بقدم متراجعة للخلف وقدم متقدمة مائلة تماما، متحدية بأنفها المرفوع المتكبر وجبينها الناتئة وحركة يديها اللامباليتين المعقودتين خلف ظهرها المشدود المتصلب فيما يصعب تحديد الوجهة التي تتطلع إليها عيونها المواربة في إصرارها على أن تظل شبه مفتوحة شبه مغمضة. دوغا الرسام البارع الذي يرسم بعفوية كما لو يحلم مغمض الجفون، يصحو من حلم الرسم نحاتا بعيون مفتوحة على كابوس يحاكي فظاعة الواقع. 
في 5 يناير/كانون الثاني 1875 افتتحت دار الأوبرا الجديدة المصممة من طرف المعماري شارلز غارنييه. إلا أن دوغا دأب حتى أواخر 1870 على إدارة الظهر لها، مصرّا فقط على استحضار فضاءات أوبرا بالوتييه التي دمرها حريق 28/29 أكتوبر/تشرين الأول 1873 في لوحاته؛ ومواصلا النظر من خلال ثقب المفتاح ذاته على أطلالها المضيئة الآهلة هذه المرة أكثر من ذي قبل.
إذا كان صحيحا أن تاريخ المجتمعات الحديثة يشهد على وجود صلة وثيقة بين التطور والحاجة المتزايدة للإنارة، قبل الانتقال إلى الإنارة العامة؛ فذات الصلة الوثيقة استلهمها دوغا في الربط بين الحداثة الفنية والحاجة الملحّة للإنارة الاصطناعية بديلا عن أضواء الطبيعة وستُحدِث ثورة في مجال الفنون. هكذا سيعمل دوغا الكهربائي المحترف بدأب من موقعه طيلة تواجده بأوبرا بالوتييه أو أوبرا غارنييه على وصل أسلاك الفن العارية - في أعماله على الأقل - بشبكة الإنارة الموجودة آنذاك في عين المكان بانتظار التغطية الشاملة لاحقا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.