}

متحف اللوفر: 500 عام على رحيل ليوناردو دافينشي

ميشرافي عبد الودود 28 نوفمبر 2019
تشكيل متحف اللوفر: 500 عام على رحيل ليوناردو دافينشي
"الجماهير الغفيرة تهتف بدورها خفّاقة الأجنحة: يعيش دافينشي"
حسناً فعلتَ يا ليوناردو – على عكس القِلّة من العباقرة أمثالك –  باختيار الموعد المحدَّد والعنوان المؤكَد للمجيء كضيف شرفي رفيع المستوى، حيث كل شيء معَدّ سلفا لاستقبالك في محترف النهضة الإيطالي، وفق الشروط الحضارية المتفق عليها سلفا أيضا لارتداء وزرة العمل على الفور دون أدنى تأخير.

كنت تعرف بخبرتك العلمية الطويلة في تصميم آلات الطيران أن العبقرية ليست قفزا في الفراغ على الرغم من تخصصك في دراسة حركة الطيور وابتكار معادلاتها الميكانيكية، إنما هي انغراس متجذر في زمانٍ معين بالتحديد لمد الجسور نحو أزمنة لاحقة بخبرتك في الهندسة المعمارية المستقبلية. لا مجال إذاً للمراوحة أو المساومة أو المهادنة أمام أعتاب الملوك والأمراء، لأنك تعرف جيدا أن "الزمن الإنساني" الجديد المصوغ كفضاء زمن أمثالك من المتنورين أكثر مما هو زمنهم. أنت الذي كنت تتنقل بينهم كما كنت تتنقل بين غرف منزل الطفولة أثناء لعبة "الاستخفاء والتظاهر"، متفوقا عليهم بسهولة في اللعب بخبرتك في تصميم الألعاب الملكية ونحت النكات والأحاجي زمن السلم والرخاء، صافقا الأبواب واحدا تلو الآخر في وجوههم دون أدنى توجس في زمن القلاقل والمناوشات بخبرتك في هندسة المعدات الحربية؛ أنت المالك الوحيد للمفاتيح السحرية وليس أبدا رسام بلاط متعدد المواهب: مفاتيح العلوم كلها. كذلك أنت في كل شيء "استثنائيا وكونيا كفاية كي توصف بأعجوبة الطبيعة" (غاديانو المجهول).

حياة متجددة ما بعد الممات
ماذا تحفظ لك الذاكرة يا ليوناردو دافينشي؟ الكثير من الأشياء، ولا شيء تقريبا.
بعد 500 عام على رحيلك لا تزال شخصيتك المتنفذة المستحوذة لغزا محيرا يستعصي على التفسير أو التأويل، ناهيك عن الإحاطة. لم تكن أيها المعلّم النهضوي الفلورنسي واعيا فقط بما ستؤول إليه ثروة حياتك ما بعد الممات، تلك الحياة الجديرة وحدها بالبقاء الذي لا يحوز جواز المرور الأبدي سوى بأنسنة الموت وإفراغه من محتواه العبثي؛ بل إن عبقريتك المتفردة كانت سباقة إلى ترتيب كل شيء منذ وقت مبكر جدا، من خلال تصميم نموذج محكم لمتاهتها الوجودية التي توثِّق سيرة أنفاسك الذاتية المتلاحقة وانهماماتها التجريبية اللامتناهية للأجيال المقبلة البعيدة.
هل يسرّ قلبك يا ليوناردو أن يحتفي العالم بالذكرى 500 لاستراحتك الأبدية بفرنسا؟ البلد الذي اخترت أن تنهي فيه حياتك المهنية محمَّلا بحقائب معارفك العلمية الثقيلة كما لو كنت تستجيب وتستسلم أخيرا لقوانين الجاذبية التي عرَّفتها في كراريسك "بالرغبة في استعادة المكان"، عندما لم تعد يدك اليسرى تقوى على الصباغة وتداول الألوان مكتفيا بالرسومات والخربشة فقط، أنت الماثل بشموخ أمام المدخل الرئيسي تماما كما وصفك أحد أحفادك البعيدين الفرنسي شارل بودلير  في ملحمة "المنارات" "مرآةً عميقة وقاتمة" بأبهتك النهضوية ووسامتك الفلورنسية في متحف اللوفر  بإزاء معرضك الاستعادي الذي يلملم لأول مرة شتات مسيرتك المهنية الفنية الهائلة كرسام (من 25 أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى 20 فبراير/شباط 2020).

 أندريا ديل فيروكيو (فلورنسا، حوالي 1435– البندقية 1488)، القديس توما الجاحد رفقة المسيح. تمثال برونزي موشى بنقوش مذهبة.
فلورنسا، أورسان ميشال. المتحف الوطني بارجليو.  © لويس فرانك.


















لعل خيال ابتسامة ناعمة تشي بها أخيرا هذه "المرآة العميقة القاتمة" الحاملة وحدها لزخم أبجديتك الإيطالية المشاكسة المعكوسة فيما ترنو مجددا بحنان إلى مهابة تمثال فيروكيو البرونزي "القديس توما الجاحد رفقة المسيح" الذي شكل "مدرستك الأولى" يفتتح المعرض كعتبة مرحِّبة تَتَلْمَذُ عليها أيضا لِلحظة الجموع الغفيرة المتوافدة مدجَّجة بأجهزتها الذكية رغم التحذيرات المسبقة  لتخليد لحظةِ تتويجِ "علم الرسم" – بحسب تسميتك–  على باقي النشاطات المهنية والعلمية الأخرى، تماما كما خططت له أن يكون دائما وأبدا ممارسة كيميائية استقرائية للعالم، وأداةً معرفية رائدة لضخ الحياة في اللوحات بحيث "تمتلك الرسومات، في الفضاء اللانهائي المتألف من تعاقب الظلال والأضواء، واقعية الحياة، عبر اختراع حرية غرافيكية تصويرية غير مسبوقة، توحي بالحركة" (اللوفر) . ها أنت أخيرا وجها لوجه مع أعظم وأقرب خمس لوحات مقدسة كصلوات إلى قلبك توجد في حوزة مجموعة المتحف الخاصة– من بينها الموناليزا التي لن تترك جدران صالة عرضها العائمة في غلالة شفافة من الأزرق الزجاجي – ورفقة ما يفوق عشرين رسمة، إضافة إلى ما يقرب من مائة وأربعين عملا أي ما مجموعه مائة وستين (من اللوحات والرسومات والمخطوطات والمنحوتات والقطع الفنية) استجلبها اللوفر من أعرق المؤسسات الأوروبية والأميركية. وهذا ما لم تكن لتقدر عليه وحدك أيها الانعزالي أكثر مما ينبغي، أنت الذي أفلتت حياتك الانسيابية من بين فروج أصابع يدك بإنجازاتها المذهلة المترحلة كحريق هائل خرج عن السيطرة، واستوجب هذه المرة بالتحديد رجال إطفاء أكفاء، ليس بهدف إخماد النيران بل لمد ألسنتها العالية كفاية حتى يتسنى لساكنة باريس التطلع إلى مدينتهم تحت نيران ألوان حرائقك.

صياغة تصويرية حركية مبدعة لمشهدية العالم

نسخة من العشاء الأخير، جدارية، حوالي 1594 -1598. ميلانو إيطاليا.



















لم تكن موسيقيا، مصمما مسرحيا، مهندس هيدروليات، مهندسا معماريا، عالم نبات، عالم تشريح، جيولوجياَ، رياضيا، شغوفا بالفلسفة وغيرها من الاختصاصات العلمية المتشعبة التي لا تحصى... إلا لأنك خُلقت منذ البدء رساما عبقريا تجري في عظامك ألوان الصباغة مجرى النخاع الشوكي، وهكذا ارتأيتها أن تكون نسغا حيا يغذي شجرة العلوم بشتى فروعها، مقترحا صياغة تصويرية حركية مبدعة لمشهدية العالم، دشَّنَتْها "جدارية العشاء الأخير" المؤرِّخة لمحاكمةِ خيانةٍ مرتقبة أحضرتَ إليها عمدا في صيغةِ متتاليةٍ رهيبة كافة حوارييها الغامضين المتحلقين حول نورانية المسيح المستكينة الموبِّخة بُعيْد النطق مباشرة بالكلمة المتنبِّأة "أحدكم يأكل ويشرب معي في نفس الوعاء سيخونني" حيث "تكشف – إيمائية–   الأيدي والأذرع قدر الإمكان في جميع الأفعال عن بواطن الشخصية، لأن الروح المتأثرة المنفعلة تستعين بحركاتها في ترجمة ما يشغلها" كما دونّت في دفاترك . هل كنت تخشى مصيرا مماثلا قادما مترددا لاحقا في ختم وصيةٍ منذورة سلفا للتحريف والخيانة؟ أنت الذي حذرت أكثر من مرة في مذكراتك المتهاونين والجاهلين بالرياضيات من الاقتراب من خوارزمية لوحاتك الهندسية الدقيقة. بالطبع لم تكن جادا كما لم تكن ممازحا أيضا، المؤكد أنك كنت لمّاحا إلى أن "الإصرار على أهمية الرياضيات، كنموذج مطلق للمعرفة، يوازن التجريبية الراديكالية حيث "تتموقع" باستمرار، في حرصك على الواقعي. إذ ينبغي فهم هذا الموقف من خلال مقاربة شاملة أغفل الكثير من "شرّاحك" إعادة تشكيلها. كنت تستهدف استحداث علم "المرئي"، ولم تتردد في إلحاق الاستنتاجات التي توصلت إليها الفلسفة أو العلوم الفيزيائية بالدور الرائد للصباغة؛ المنوط إليها وحدها بالمراقبة"، كما يعلق مؤرخ الفن أندريه شاستيل. و"إذا تم استدعاء جميع التخصصات للحصول على معرفة شاملة متكاملة للكون، فذلك لأن مراقبة الظواهر لم تعد تلبي حاجتك التي تتطلع إلى ترجمة صادقة تتطلّب معرفة بواطن هذه الظواهر بالقوانين التي تحكمها، مؤكدا أنها ذات طبيعة رياضية أساسية" (اللوفر).

موسوعة علمية مفهرسة متكتِّمة


 ليوناردو دافينشي، قماش سانت موريس الفضفاض، شخصية جالسة، حوالي 1475 - 1482، رسم بألوان مائية. باريس.
متحف اللوفر، قسم الفنون التصويرية/ ميشال أورتادو.
 





















"ثمة شيء خارق في هذا الحشد الهائل من الجمال والسحر والاستحواذ لدى نفس الفرد"- يختزل لنا جورجيو فاساري ملامح شخصيتك في المدونة الشهيرة التي خصص لك بين طياتها صفحات باذخة. فبالإضافة إلى ذخيرة من السجلات التاريخية والرسائل الرسمية المتعددة والوثائق الدبلوماسية والعقود والإيصالات التي تركتها بمحض إرادتك لنا، نتوفر على خزانة كاملة: كتاباتك نفسها. يوجد اليوم أكثر من ستة آلاف صفحة من المخطوطات والدفاتر، آلاف من الملاحظات الشخصية التي تزخر بمعلومات نفيسة حول معارفك ومشاريعك ورحلاتك مسخَّرَة بأكملها كمفاتيح لفك شيفرة أعمالك الأسرارية التي استنزف عددها الذي لم يتجاوز الثلاثين (ضاع أكثر من ثلثها) طاقاتك الإبداعية الخلاقة بصياغتها اللامتناهية على مدار عقود متتالية. هذه النصوص المرافَقة برسومها التوضيحية تتجاوز قضايا الفن للاهتمام بجميع فروع المعرفة؛ لكن "الإشكالات الفنية غالبا ما تكون متداخلة أو متصلة بشكل واضح بالملاحظات العلمية" (اللوفر). كل شيء يوجد هنا هو شتات عصيّ على التبويب أسلوبيا وزمنيا: الحسابات المنزلية، التأملات الفلسفية، القصص الطريفة، خطاطات القلاع المستقبلية، وتصاميم آلات صقل المرايا، الملاحظات والرسومات البيانية المتكاملة... كخربشات سريعة أو مدونة مرسومة بعناية شكلت لوحدها نسخة نادرة من موسوعة النهضة النفيسة في صيغتها التي حرصتَ أن تظل مفتوحة غير مكتملة. المثير للدهشة لمتصفِّح هذه الموسوعة العلمية المفهرسة التكتّم عن أية تفاصيل حميمة أو لمحة سريعة أو إشارة عابرة للسيرة الذاتية أو ألبوم رسومات شخصية. أنت الذي أرخيت على وجهك ستارة كثيفة إلى الأبد كما لو كنت المتخفي الملتحف جالسا القرفصاء بخشوع كهبة إلهية مواربة في منمنمة " قماشة القديس موريس". فحياتك الشخصية قلعة محصّنة. لكنك لا تمانع بجلوس المتطفلين على عتباتها ملاحظا بحب: "ثمة درجة عالية من السحر  –والغموض– على وجوه أولئك الذين يجلسون على عتبة المساكن –العالية–المظلمة" (دفتر ملاحظات).

ليوناردو دافنشي العابر الأبدي كإعصار

ليوناردو دافينشي، إعصار، المجموعة الملكية تروست. © صاحبة الجلالة الملكة إليزابيث الثانية 2019.


الأهالي الفضوليون في فلورنسا أو ميلانو أو روما قديما لا يحفظون لك يا ليوناردو سوى صورة المهيب العابر كإعصار، المثير للريبة قليلا أو كثيرا في الأزقة والشوارع بأزيائك الغريبة، وخصلات شعرك  الطويلة المُتَوأمة مع لحيةٍ ناعمة متموِّجة أرسلتهما كبستاني عجوز يعرف مسبقا أن سر الاعتناء بنباتات الحديقة يكمن أحيانا في إهمالها المتعمد عن طيبة وحبٍّ، مصحوبا فقط بخفر الصبيين اللذين رافقاك طوال الحياة تقريبا دوناً عن بقية الأحياء: منفِّذ وصيتك فرانسيسكو ميزلي والمتهم بتنفيذ رسومك الفاحشة صَلاي – كما لو نزلتم للتو من لوحة الأعمار الثلاثة الغامضة لنزهة قصيرة قبل الصعود للإطار – بلا شك لم تكن تملك سعةَ الوقت أو جرأةَ المزاج لإلقاء التحية أو تبادل بعض الكلمات المرحِّبة كباقي العباقرة الذين تستغلق على حواسهم المفكرة أشد الأشياء بساطة وتلقائية، لذلك كنت تكتفي بالتطلع سريعا في وجوههم المتفحصة بعيونك المجهدة التي رأت كل شيء حتى العتمة كأنما تذعن سلفا لحكم غير منطوق قبل إكمال المسير الحر في العصريات المتوسطية اللافحة، لا تظلل تجاعيد وجهك العميقة سوى حفيف ابتسامة الموناليزا الغائمة المتماسكة التي أمعنتَ في ترقيقها أكثر مما يرقِّق الخبّاز الإيطالي الطيب فطيرة البيتزا تحت أنامله الرشيقة المداعبة؛ لأن عبورك "النهضوي" المجنّح الذي لا يوقف تداول حرية الحركة والحياة غير مشروط بزمان أو مكان أو سكّان،  فأنت ما أنت عليه دائما وأبدا يا ليوناردو: "عابر كل شيء" (النفري).
الآن حلقات عصافير الدُوري المجتمعة الصاخبة أمام مدخل اللوفر مبتهجة في استقبال جموع الجماهير الغفيرة المتوافدة أكثر من العادة تهتف بدورها خفّاقة الأجنحة: يعيش دافينشي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.