}

هنا المتوسط: العبور الأبدي مِنْ وإلى..

تشكيل هنا المتوسط: العبور الأبدي مِنْ وإلى..
من أعمال خوان ميرو المشاركة في المعرض
هنا الآن يتقدم موكب السيارات والشاحنات متئداً ناحية بوابة "متحف محمد السادس للفن المعاصر والحديث" في قلب الرباط. بإمكاني أن أخمن بسهولة السرعة المتباطئة بضغط متزايد للأقدام على الكوابح. فضول وأسئلة مطروحة من المارة الذين أثارهم الموكب المهيب.

 طبعاً هذا ليس موكباً ملكياً أو رئاسياً أو موكب نجوم كرة القدم. لعله أهم بكثير من جميع المواكب بلا منازع: إنه موكب رواد الفن الحديث في القرن العشرين يعبرون في شارع محمد الخامس في القرن الواحد والعشرين بجوازات سفر دبلوماسية عابرة للأزمنة والأمكنة بقيادة المايسترو بابلو بيكاسو.

كل شيء معدٌّ سلفاً بعناية بالغة لتأمين مرور معلمي الحداثة الغربية في الفن للبحر الأبيض المتوسط، وتحديدا مضيق جبل طارق للمرة الثانية على الأقل، بعد أن قامت بعبوره أذرع الفن والحلم سباحةً في بدايات القرن الماضي. بالتأكيد تكاليف الرحلة تفوق أسعار الدرجة الأولى، ناهيك عن الأمن الذي يصل إلى حد تعبئة قوات الدرك والحرس المدني.

مجموعة "مركز بومبيدو" الفنية النفيسة تحط الرحال في "متحف محمد السادس للفن المعاصر والحديث" في معرض يستمر إلى غاية 27 أغسطس / آب 2018 احتفاء بالفضاء المتوسطي، كجغرافية للضوء والطليعة معاً.

 المعرض - الحدث: "المتوسط والفن الحديث"، الذي تنظمه مؤسسة المتاحف الوطنية، يقترح وفقاً لرئيسها مهدي قطبي: "إعادة النظر في تاريخ الفن في علاقته بفضاء ومتخيل المتوسط"، و"يأخذنا في جولة حول منطقة البحر الأبيض المتوسط، تضم في تسعة أقسام كرونولوجية وموضوعاتية، ما لا يقل عن ثمانين عملا فنيا من لوحات، منحوتات، وصور فوتوغرافية. بإمكان الزائر أن يستمتع بروائع فنية لجورج براك، أندريه دوران، ألبير ماركي، فاسيلي كاندانسكي، هنري ماتيس، فان دونغن، راؤول دوفي، بيير بونار، و بابلو بيكاسو، وغيرهم"، بحسب كريستيان بريند كوميسير المعرض.  

لحسن حظنا يوجد معنا، في الزمان والمكان، السيد كريستيان بريند الذي يحرص على مرافقة الحشد الذي يتكون أغلبه من النساء اللواتي اقتربن من أناقته الباريسية المهنية، أكثر مما ينبغي بغزلهن المبتذل، فيما يقف أمام المحطات لوحة بلوحة، مستفيضاً في شروحاته وهوامشه لمدة ساعة زمنية، سيقطع بنا خلالها رحلة مئة سنة من الفن والدهشة: الرجل في مهمة ولا مجال للاستهتار العربي، يتفاعل مع المهتمين بغض النظر عن المركز الاجتماعي، ويغض الطرف عن المجاملات.

هنا الآن الجميع، بدون استثناء، مصعوق بالتعرف إلى لوحات الكبار للمرة الأولى، مهما بلغت درجة الاختصاص. كريم بناني، شيخ الفنانين المغاربة وأول طالب مغربي للفنون بالخارج صرَّح لـ"ضفة ثالثة" أن "أهمية المعرض تكمن في أن اللوحات المقترحة تبدو كما لو أنها تعرض للمرة الأولى حتى بالنسبة لفنان وخبير دولي مثلي قضى عمراً طويلاً في ارتياد المتاحف وصالات العرض، وبالتالي فإن المعرض ليس موجها فقط للجمهور المغربي، إنما لكافة الزوار من مختلف الجنسيات بالنظر إلى المكانة التي يتمتع بها المغرب كبلد عبور واستقرار منفتح على الثقافات. خطورة اللوحات تتمثل تحديداً في أنها تعود لفترات زمنية فارقة تسمح بتسليط الضوء على بدايات العبور الكبير لتاريخ الفن الحديث. وهذا شيء رائع بالفعل".

استعادة الأوديسة من جديد

المحطة الأولى رصيف ميناء مرسيليا عام 1908، حيث ترسو مراكب راؤول دوفي، الذي أصبح، بتأثير من بول سيزان، ميالاً إلى تنسيق حركة الرسم وفق تأليف هندسي، يعتمد على تبسيط الأشكال، هيكلة الفضاء، و"حساسية في التعامل مع ألوان تتجاوز موضوعاتها، وتقوم بتصميم لوحاتها من خلال تشكيل مساحات لونية، بدرجات متفاوتة، يضيف إليها الفنان تصوير العناصر المختلفة". برغم هذا التصور المحكم مسبقاً للعمل الفني فإن لوحة "مراكب راسية برصيف ميناء مارسيليا" توهم المتلقي بتصميم طفولي تلقائي يكتسب مهارات جديدة في تعلم قواعد منظور جديد.

اكتساب قواعد منظور جديد هي المهمة التي اضطلع بها مجموعة من الفنانين، في بدايات القرن الماضي، استجابوا لنداء الجنوب، بصخب ألوانه وشموسه. الحلقة الصغيرة التي بدأت تتسع شيئاً فشيئاً "شكَّل بالنسبة لها الذهاب للجنوب رحلة حج لمصادر صباغة بول سيزان"، لتنطلق مغامرة الأوديسة الفنية الرائعة التي ابتدأت من سواحل البحر الأبيض المتوسط وتعد بامتياز مهدا للنزعة الوحشية والتكعيبية على حد سواء.

لويس فالتات يعود من رحلاته المتعاقبة بالدراجة إلى محترف بيير أوغست رونوار في عام 1900، جنوب فرنسا، بمشاهد طبيعية بدت نماذج متكررة ومبتكرة يلجأ فيها الفنان إلى استخدام أقل الألوان بشكل مطرد (الأحمر والأزرق والأخضر)، تجمع، في وقت واحد وعلى نحو عشوائي؛ "عملا تسطيحيا للشكل مستوحى من الفن الياباني، معالجة توجيهية لضربات الفرشاة معهودة عند الانطباعيين، واستخداما للون الصافي النقي المعروف لدى فناني النزعة الوحشية":

سنوات قليلة بعد ذلك سيشهد الجنوب الفرنسي تحديدا ولادة "المنظر الطبيعي الحديث" على يد فنانين أمثال هنري ماتيس، أندريه دوران في بلدة كوليوز، كما جورج براك في الاستاك نواحي مارسيليا؛ جمعهم التوجه إلى اللون الصافي لاستعادة المشاهد الساحلية المتوسطية.

لعل أندريه ماركي، أبرز رموز هذه المرحلة، بالنظر إلى الأداء المتزن الذي عرفت به أعماله الفنية التي اعتمدت التبسيط في التصاميم الهندسية للرسومات، والتدرج في الألوان المشرقة، يرافقه سرعة ورشاقة في ضربات الفرشاة التوجيهية بحيث تبدو لوحاته "رسومات تخطيطية وتسجيلات للضوء في إطارات فنية محكمة تركز على الغوص عميقا في الخلفية، كما في لوحة ميناء نابل 1909 ".




الحظ السعيد قرر أن يمضي الطفل فاسيلي كاندانسكي طفولته المبكرة في بلدة الأوديسة الروسية بمحاذاة البحر الأسود. لا غرابة إذن أن يكون "الفارس الأزرق" أول عابر للمتوسط إلى تونس في عام 1905، والرائد الأول للأوديسة التجريدية التي حررت عالم الفن الحديث:

لوحة "مدينة عربية"، التي يعرفها جيداً كوميسير المعرض كريستيان بريند، تستأثر بحواسه، ويقف ساهما متأملا "أمام عمارتها الهندسية الأقرب إلى سمرقند، بحفاظها على الأسلوب الروسي الإسلامي"؛ تعدُّ بجدارة سمفونية زرقاء، كل شيء فيها أزرق، السماء زرقاء، الضوء أزرق، الظلال على البلاط زرقاء، بينما الشخوص منثورة كالشقائق، ولا وجود للأسود سوى في عجلات العربة التي تغذ السير. من الصعب تجاهل الأزرق الذي ينصب الخيام في كل مكان وعدم الانتباه للأسود الحوذي الذي يستعجل بعجلاته العبور.

 ثمة إحساس قوي يراودني إزاء هذه اللوحة بالذات، أن الحوذي الموجود في العربة، رافعا سوطه عاليا، فوق ظهر الحصان، ليس إنسانا آخر غير "الفارس الأزرق"، بدليل ثيابه الزرقاء، التي اختلفت عن باقي ألوان أقمشة الشخوص الأخرى في الوراء، و بالتالي أسمح لنفسي بالقول، إننا إزاء عبور كاندانسكي تحديدا للمرحلة الزرقاء، نحو آفاق الحرية والتجريد التي لن تتأخر في المجيء.

الورش الفنية: استضافة العالم

في رسالة خطية للفنان الفرنسي غوستاف كوربي خريف عام 1854 يتكلم عن محترفه على النحو التالي: "إنه المجتمع في أرفع مستوياته، في أدناها، في وسطه. باختصار، المحترف طريق لرؤية المجتمع في اهتماماته وأهوائه. إنه العالم الذي يأتي إلي ليتم رسمه من مكاني".

مع بداية القرن العشرين تزايد الاهتمام بالورش، واختار عدد من الفنانين، الذين أصبح لهم صيت كبير، الإقامة بعيدا عن العواصم الأوروبية: ليس إمعانا في العزلة، إنما إمعانا في الانفتاح والتحرر. لقد أدركوا بحساسيتهم وذكائهم الفني أن الإقامة في الهوامش على سواحل الكوت الآزور الفرنسية، مثلاً، يسمح لهم بأن يتحرروا من عبودية ما يصطلح عليه "بعالم الفن" بتعقيداته المهنية، كما يوفر لهم فرصة ذهبية للتحوّل إلى قبلة يحج إليها العالم، بدل أن يستنزفوا طاقاتهم في التهافت واللهث وراء عالم متهافت.

"هذا الاهتمام العام بكواليس الإبداع، دفع بعض الفنانين المعاصرين إلى تناول موضوعاتي للورشة كمفهوم يندمج في نهجهم أو موقفهم الفني. بهذه الطريقة، فإن الورشة التي يتم تداول صورها على نطاق واسع، تتماهى تماما مع الأسطورة الشخصية للفنان، الذي يقوم بتفريغه من ماديته، كمعمل للإنتاج، ليتحول إلى فضاء للتفكير و التساؤل حول شروط نشأة الفن".

ثلاثة من أهم التشكيليين الكبار في القرن الماضي، استقر بهم المقام بسواحل الآزور الفرنسية، تمثَّل شغفهم المشترك في تقديم لوحات متتالية للورش التي اصطلح عليها "ورشات الميدي": بيير بونار في الاستوديو الذي اقتناه بكانيت، هنري ماتيس في منزل الحلم بفانس، وبابلو بيكاسو في محترفه كاليفورنيا في مدينة كان.

بيير بونار المحفوظ في الذاكرة الفنية، كصاحب طريقة "البوناردية" نسبة إلى اسمه: في متحف غرونوبل، ثم في متحف لوكسمبورغ، كان يراقب مرور الحارس من غرفة لأخرى، ليخرج من جيبه علبة صغيرة، تحتوي على أنبوبين أو ثلاثة من الصباغة، ويشرع خلسة في تحسين تفاصيل تقلقه بضربات الفرشاة. ثم يختفي فور الانتهاء، كتلميذ بعد توقيع انتقامي على السبورة.

الطريقة "البوناردية" ليست شيئا آخر سوى "الرتوشات في عين المكان"؛ بتعبير آخر، أينما كان بيير بونار، يتحول المكان إلى ورشة فنية: لوحة "ورشة الميموزا" تعتبر بحد ذاتها الملونة التي جمعت مزيج ألوان الجنوب. سحر الميموزا لا يقاوم، خفة لمسات الأصفر والأخضر، تفجر الزهور في رقائق ذهبية. ثمة هندسة وتنظيم للضوء. الأبواب الزجاجية التي من خلالها نطل على حريق الشجرة، تمنع أعيننا من الغوص في الزهور. "إنها تشكل حاجزا هندسيا بين عالمين متوازيين يعتمدان التكامل في لمسات الالون التكميلية لصوغ الضوء الذي عمل عليه الفنان طوال حياته المهنية".



ربما نجح الفنان في التخلص من الرقابة، لترسيخ نهج "الرتوشات في عين المكان"، و تحويل محل وجوده إلى ورشة فنية، من خلال علبة الصباغة المخبأة في جيبه. لكن مشاهدة لوحات بيير بونار تتطلب قوة الملاحظة. في أسفل اللوحة من اليسار. ثمة وجه امرأة بالأصفر والأحمر، "محاط بهالة من الأزرق السماوي، يمتزج بألوان الجدار". وجه متلصص بحنان، غير أن بيير بونار يدرك أن ثمة رقيبا يراقبنا، دائماً، من الخلف. وهنا يكمن الفرق.

الفن ضفة ثالثة موثوقة

ماذا يعني أن يقف فنان معروف اختصارا باسم بن على رصيف ميناء نيس في كامل أناقته الفرنسية أمام الكاميرات الحية، مستعدا لقطع المسافة بين الضفتين سباحة "كعمل فني". بالطبع الرسالة التي يحاول نقلها للعالم مباشرة فيما يغطس في المياه ببذلته السوداء، قبعته المستديرة والمظلة، قاطعا ضفة الرصيف إلى الضفة الأخرى:

الفنان اليوم، وتحديدا بتاريخ 27 يوليو/تموز 1971 عند الساعة العاشرة صباحا، غير كل فنان آخر فيما مضى من العصور، ليس فقط بمأمن من الغرق، بل ربما يكون كما النوارس بمأمن من البلل أيضا؛ بتحوله إلى مجرد ذريعة، أو مجرد حامل معزول عن الخطر:

بالتأكيد "العمل الفني" قادر وحده على الحياة، قادر على المجازفة وعبور الضفاف سباحة، وأذرع الفنان ليست سوى مجاديف مستعارة، سرعان ما يتخلى عنها عند اجتياز الرصيف. من الآن فصاعدا يختفي لدى الفن عموما هاجس الأمل بالنجاة، مفسحا للأمل فقط أن يباشر حياته الطبيعية على أرضية غير هشة.

الفن أصبح ضفة ثالثة موثوقة. بإمكان الفنان الوقوف على رصيفها بأمان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.