}

"لندن –جنين":خطان متوازيان يلتقيان على خشبة تحتضن جدليات الوطن

يوسف الشايب 6 ديسمبر 2018

الحديث عن العرض المسرحي "لندن – جنين"، يتطلب السير في خطين مستقيمين يلتقيان على عكس قوانين الرياضيات والفيزياء على خشبة المسرح، ليستقبل جمهور ملتقى فلسطين للفنون الأدائية 2018، عملاً قدمت فيه المخرجة خولة إبراهيم ما يؤكد أن لهذه الفنانة الشابة القادمة من مجدل شمس في الجولان المحتل ما تقوله، وباقتدار، في هذا المضمار، وهو ما ينطبق أيضاً على الأداء الواثق لكل من الفنانين فيصل أبو الهيجاء وعلاء شحادة من جنين.

وأول الخطين المتوازيين في الحديث عن "لندن – جنين"، يتعلق بالحديث عن تجربة الإنتاج المستقل في فلسطين، وهي غير دارجة بكثرة، فالفنانون الثلاثة قرروا الخروج بهذا العمل على نفقتهم الخاصة، ودون تبّني أي مسرح أو فرقة مسرحية، أو دعم مؤسساتي محلي، أو عربي، أو أجنبي، مباشر له، وهو أمر يدفع باتجاه تقشف لجهة العوامل المساعدة في العرض، كالديكور، على سبيل المثال، والذي لم يتجاوز بضع كراسي بلاستيكية، في حين يكون الأداء، وتحريك الممثلين، والنص، هي العوامل الأساسية الرافعة للعمل، وهنا نجح الثلاثة في تقديم أقصى ما لديهم، ودون تقشف، فضحك الجمهور، وسرح في تفكيره، وتفاعل مع تقلبات أمزجة الممثلين الصديقين، ما بين رغبة في البقاء داخل بريطانيا عقب فرصة العرض فيها، أو العودة إلى فلسطين، وتحديداً مخيم جنين.

وكان العرض المسرحي هذا، وهنا ندخل في الخط الثاني المتعلق بالعرض نفسه لا بظروفه الإنتاجية وتصنيفه تبعاً لها .. كان شفافاً وصريحاً وجريئاً في طرحه لعديد القضايا المجتمعية والسياسية والسيكولوجية التي تؤرق الشباب الفلسطيني عامة، وفي المخيم على وجه الخصوص، ليعبّدا المسافة الشاسعة ما بين لندن وجنين، بكوميديا مفعمة بالشجن، وبأداء درامي لا يخلو من سخرية مضحكة ولاذعة، وكأنها عمل مرآوي، وهو عادة من أصعب الأنواع على صعيد استقبال الجمهور، ليس فقط في المسرح، بل في مختلف مجالات الإبداع الثقافي والفني، خاصة أن "النظر في المرآة" التي لا تزوّر الحقائق، أو تجمّلها، تعمل بمبدأ الصدمة التي لا يتقبلها الكثير من المتلقين، وإن كان جمهور العرض الذي احتضنته خشبة قاعة مسرح عشتار بمدينة البيرة في غالبيته من غير الفلسطينيين، إلا أن مرآة خولة وفيصل وعلاء تبقى، بالتأكيد، ليس كمرآة الأميرة في تلك الأسطورة الشهيرة التي تجعل منها على الدوام، ولو كذباً، الأجمل في العالم، ففي فلسطين، كما في المخيم، قوة مغناطيسية جاذبة ما، وفي الرياح والروائح الكريهة، بالمفهوم الرمزي والمعنوي للمصطلح، ما يجعل من الجغرافيا والظروف المحيطة فيها، والساكنة إياها، عوامل طاردة.

وفي الوقت الذي حضر فيه "الديالوج" بالعرض كنعصر ارتكازي، لم يغب "المونولوج" عنه أيضاً، بل كان له سطوة واضحة .. أحياناً اختلط الاثنان بشكل سلس، وإن انعكست عليه حالة الصراع المتعمرة في دواخل الممثلين الاثنين، وهو اختلاط غير دارج ربما في حالات كثيرة داخل الأعمال المسرحية الفلسطينية خاصة، والأدائية عامة.

ولعل تبادل الأدوار المتعددة لكلا الممثلين، خاصة فيما يتعلق بقرارات الهجرة والعودة، أو البقاء هناك أو هنا، ما تبدّل الـ"هنا" والـ"هناك" في المعنى والمبنى والحضور حتى في الذاكرة، هو ما جسر المسافة بينهما، وخاصة في تلك المنطقة القريبة من "حافة القرار"، وذلك الصراع الذي يؤطره جغرافياً، وبشكل افتراضي مبني على قصة واقعية كمجمل أحداث المسرحية، "مكتب الهجرة في شرق لندن".


وبعد مقارنة "الشامبو"، إن جاز التعبير، في أحد مقاطع المسرحية الصارخة، من الصراخ، يتأتى النقد الذاتي وسط قهقهات اعتلت في القاعة، حيث الحديث عن "القهوة الكذابة"، و"الكرسي مش المريحة"، ومع ذلك فإن فيصل عبرها عن حالة الالتصاق بالوطن رغم صعوبة ظروفه المعيشية ببساطة العبارة وعمقها "بس أنا بكون ماشي في الشارع وأنا مبسوط"، وهو ما يتقاطع ما حال التحول لدى علاء من الحديث عن حياة المخيم، والاعتياد على "حدا يخلع الباب بوجهك"، وينهال عليك بموجة من الأسئلة الاستفزازية من فرط تفاصيلها التي تعكس فضولاً مستفزاً، لكنه ينصهر في بوتقة مغايرة حين يتعلق بالأم، وهي تسأله "إنت منيح يمّا .. معاك مصاري"، فينسحب من هستيريته تجاه المجتمع معترفاً بأنه اشتاق إليها كثيراً، هما اللذان تبادلا لعبة الحنين، كما تبادلا لعبة النفور.

واعترف الفنان علاء شحادة بأن التجربة بحد ذاتها "كانت صعبة"، لكنها شكلت حافزاً لديهم ثلاثتهم للعمل وفق "روح التحدي"، بعيداً عن الحالة السائدة والتذمرية المحقة أحياناً، والتبريرية أحياناً أخرى بأن "لا دعم، ولا مؤسسات، ولا أحد يقف إلى جانبك"، ومن هنا بدأ التحدي، فكنت كزملائي مضطراً للعمل في مسرحيات أخرى خمسة أيام في الأسبوع، في حين أخصص اليومين المتبقيين منه لهذا العمل، والأمر ذاته ينطبق على المخرجة خولة في جولاتها ما بين الجولان وجنين، والأمر ذاته ينطبق على فيصل .. وقال في حديث خاص: كان الجهد مضاعفاً، كما الطاقة التي بذلناها في هذا العمل، للخروج به بأفضل حالة .. تسلحنا بإيماننا بأنفسنا وقدراتنا ورغبتنا في الإنجاز، معرباً عن أمله بأن نجاح العمل قد يؤهله للانطلاق في مساحات أكثر رحابة عبر مزيد من العروض المحلية، والخارجية العربية والعالمية، وهو العرض الذي قدم وجهتي نظر مختلفتين، وتبادلنا في طرحها، ما بين متبنّ لهذه الرؤية أو تلك، دون تقديم رسالة صارمة في هذا الخصوص.

بدوره أشار الفنان فيصل أبو الهيجاء إلى أن هذا العرض مبني على تجربة حقيقية عاشها هو وعلاء، عقب مشاركتهما في عرض مسرحي ضخم ببريطانيا .. "أحببنا مشاركة هذه التجربة مع الجمهور الفلسطيني، خاصة أنه ما بعد كل عودة إلى أرض الوطن، تصطدم بموجة لوم وعتب تتعلق بالقرار الخاص بهذه العودة، وعدم استثمار الفرصة للبقاء في بريطانيا، وهذا ما ينطبق على رحلات قدمنا فيها عروضاً مسرحية بدول أخرى .. طرحنا السؤال الجدلي حول ما يربطنا بهذه الأرض، بفلسطين، في ظل عناوين وطنية ودينية واجتماعية تسيطر على الحالة الجمعية .. لم نخترع نحن هذه العناوين، بل لربما ورثناها، وقدمناها برؤية العام 2018.

أما المخرجة خولة إبراهيم، فأكدت على أن هذه الإنتاج المستقل خرج في ظل ظروف وصفتها بـ"القاهرة"، بالاستناد على ورشات عصف ذهني وتطوير مبنية على حكايات حقيقية لهما عايشها في بريطانيا، لافتة إلى أن العرض اتكأ على نصوص عن نظرتنا لأنفسنا، لا نظرة العالم إلينا، فكان القرار بعدم الاكتفاء بالحديث عن بريطانيا، بل عن فلسطين، وتحديداً عن جنين والمخيم، وبتفاصيل الحياة اليومية داخله، بعيداً عن الصورة التي يخرج فيها عبر نشرات الأخبار.

وأختم بما اختاره أصحاب العرض الذي يجب الالتفات إليه بمزيد من الاهتمام لكونه يستحق ذلك، لوصفه بالقول "المسافة بين لندن وجنين واسعة. جنين المدينة الصغيرة الشاحبة بكل تفاصيلها المرهقة، حيث العبث الخدماتي، والطرقات المتشققة، كما لو أنها وجه عوز متجعد. الأرصفة مكتظة بعربات الباعة غير المتجولين، ولا شوارع مضاءة.. المسافة بين لندن وجنين، مسافة عاصمة ضباب كبرى ومدينة صغير متكوّرة على ذاتها بظل الاحتلال، ساكنة بهدوء شاحب في مساحة خمسين دقيقة مسرحية، وبضعة كراسي بلون أحمر"، فهناك "في مكتب الهجرة شرق لندن، يجلس فيصل وعلاء يحلمان بالاغتراب لتحقيق نجاحات كبرى، وبينما ينتظران دورهما لتقديم الأوراق، ويتجهزان للمقابلة، تتحول الأسئلة البيروقراطية إلى أخرى وجودية، طارقة جدران خوفهما من التغيير لجهة قلب الموازين وسط أعاصير ودوّامات الحنين".

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.