}
عروض

"نجيب محفوظ بلا معطف": في تعقيدات عملية الكتابة

يوسف الشايب

18 أبريل 2024


تشعّبت الحوارات الأدبية والثقافية والسياسية والاجتماعية مع العربي الوحيد صاحب نوبل للآداب، الروائي المصري نجيب محفوظ، واتجهت إلى أكثر من اتجاه، وذهبت في أكثر من ناحية.

وتحت عنوان "نجيب محفوظ بلا معطف"، نشر أحمد فضل شبلول، عن "الآن ناشرون وموزعون" في العاصمة الأردنية عمّان، كتابًا عرض فيه ثمانية وعشرين حوارًا مع محفوظ نشرت على مدى عقود، بدءًا من مطلع عام 1970 وحتى عام 1995. وجاء اختيار حوارات هذه الحقبة الزمنية باعتبارها الأخصب في حياة محفوظ، ففيها أصدر حوالي ثلاثين كتابًا، تنوّعت ما بين الروايات والمجموعات القصصية وكتب المقالات الاجتماعية والسياسية والفلسفية، وفيها كان الحدث الأبرز في حياته الإبداعية ومسيرة الأدب العربي عمومًا، أي حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1988، وخلالها حدث زلزال عام 1992 الذي كان محور أحد حوارات هذه الفترة، وخلالها أيضًا وقعت محاولة اغتياله في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1994.

وأول هذه الحوارات في يناير/ كانون الثاني 1970 أجراه أحمد محمد عطيّة في مجلة "الآداب" اللبنانية، آمّا آخرها من بين مختارات كتاب "نجيب محفوظ بلا معطف"، فكان ذلك الحوار الذي نشرته جريدة "الأيام" البحرينية في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، وأجرى الحوارات الثمانية والعشرين معه نخبة من أعلام الصحافة الأدبية والثقافية العربية، من بينهم: عماد الدين أديب، ود. عمرو عبد السميع، وسناء السعيد، وأحمد محمد عطية، ود. عصام عبد الله، وجهاد فاضل، ومرعي عبد الله، ومحمود عبد الشكور، وأحمد فرحات، ونبيه البرجي، وفاروق الشاذلي، ونبيل فرج، ودينا ريان، ومحمد محمود، وخالد محمد غازي، ووجيه خيري، ولمعي شلبي، وإيمان عيد، وطاهرة حسن، بالإضافة إلى حوارات نُسبت لوكالات صحافية مصرية وعربية، كوكالة أنباء الشرق الأوسط ووكالة أورينت برس.

غطّت هذه الحوارات حوالي ربع قرن من عمر محفوظ، حتى بات غير قادر على الكتابة بيده بعد محاولة اغتياله التي طاولت عنقه، إلى أن استجابت أعصاب يده اليمنى إلى محاولات العلاج الطبيعي، لكنها لم تكن كما كانت قبل تلك المحاولة، حتى لم يعد أهم كاتب وأديب عربي له القدرة على الكتابة، بل التوقيع على محاضر الشرطة والنيابة بعد الحادثة، أو حتى الشيكات البنكية، فلجأ إلى بصمة الإصبع، أو الختّامة المنقوش عليها اسمه.

ولمّا كانت جائزة نوبل في الآداب حدًا فاصلًا في حياة نجيب محفوظ، وفي مسيرة الأدب العربي المعاصر عامة، فقد قسّم شبلول هذه الحوارات إلى ما قبل نوبل (14 حوارًا)، وما بعد نوبل (14 حوارًا)، وهي حوارات عامرة بالفكر، والأدب، والفن، والسياسة، والفلسفة، والرياضة أيضًا، فقد كان محفوظ لاعب كرة قدم في بداية شبابه، وهي حوارات توزّعت على محاور عدّة.

ويجد من يقرأ الحوارات أن محفوظ آمن بأن "الكتابة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي الحنين لفرح ما"، لذا فإنه كان يردّد على الدوام: دعوتُ الله بأن تكون حاسة الكتابة هي آخر حاسة تموت في حياتي، لأن توقف الإبداع عندي هو الموت الحقيقي".

والكتابة عند محفوظ فن اكتشاف الفن والمعنى، فهو يرى أن اختراع الإنسان للكتابة يُعدّ أهم مراحل تحوّل الإنسان الحضاري، وأخطرها أثرًا في حياته، وهو أثناء الكتابة حرّ مائة في المائة، ولم يحدث قط أن تنازل عن حرّيته، وبعد النشر حين يسمع بعض التعليقات يشعر أحيانًا بالخوف، ولكنه يقول إذا خاف كاتب لا يصح أن يزعم أنه كاتب، فالكاتب يعبّر عن نفسه، وليست هناك لحظة يمكن أن يفرق فيها بين الوعي واللاوعي أو نسبة أحدهما إلى الآخر، لذا كان يعتقد أن الكتابة عملية شديدة التعقيد، وأنها هي الانعكاس للرؤية الكاملة للكاتب في الحياة والناس والكون.

حول عدم كتابته عن القضية الفلسطينية في أعماله الأدبية، أشار محفوظ إلى أن "الفن الروائي لا يمكن أن يكتب خارج دائرة تجربته، إنه ليس كالشعر" (Getty)


ويتذكر محفوظ في واحد من حواراته أن أول قصة نشرها كانت عام 1930 في مجلة "الشباب"، وموضوعها عن فتاة بائسة تنام في ماسورة، وأنه كتب ثلاث روايات في بداياته ولم تنشر، بل رُفضت، لكنه واصل الكتابة، التي أشار إلى أن من بين العوامل التي جعلته يتجه إليها: متعة القراءة في سن مبكرة، والتأثر بكتّاب مثل المنفلوطي والعقّاد فيما بعد، والتبجيل والاحترام اللذان كان يحظى بهما الأدب عند مدرسي اللغة العربية.

وعلى الرغم من أنه لم يتناول، أو يتحدث عن القضية الفلسطينية في أعماله الروائية بشكل مباشر، إلا إنه لم يتخلّ عنها، فقد تحدّث عن الحق الفلسطيني في الكثير من حواراته، بل إن في كلمته التي ألقاها بالنيابة عنه محمد سلماوي في حفل توزيع جائزة نوبل لعام 1988، هناك إشارات واضحة لهذا الحق، حيث قال: "في الضفة وغزة أقوام ضائعون، رغم أنهم يعيشون على أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم، هبّوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي، وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به، فكان جزاء هبّتهم الباسلة والنبيلة رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالًا، تكسيرًا للعظام، وقتلًا بالرصاص، وهدمًا للمنازل، وتعذيبًا في السجون والمعتقلات، ومن حولهم مائة وخمسون مليونًا من العرب يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل والعادل".

بل إنه في حوار في عام 1988 أكّد أن "الانتفاضة الفلسطينية ما هي إلا ثورة، وأنا أؤيدها دون قيد أو شرط"، كما قال إنه "ضد ممارسات إسرائيل، ويجب مقاومتها والتصدي لها".

وحول عدم كتابته عن القضية الفلسطينية في أعماله الأدبية، أشار في حوار إلى أن "الفن الروائي لا يمكن أن يكتب خارج دائرة تجربته، إنه ليس كالشعر... الشعر مجرّد، إذ يمكنك أن تكتب قصيدة عن أي "حاجة" ما دمت تعبّر عن عاطفتك الخاصة، لكن عندما تأتي لكتابة رواية، إذا كنت لا تعرف "حاجات" في حاشية الفن وليس في صميمه، فإنك لا تستطيع أن تكتب هذه الرواية: الشارع، والإنسان، واللباس، والغذاء، والعلاقات اليومية... "يعيشوا إزاي حياتهم اليومية"... أما أن يكتب الروائي عن بلد لم يره، فإنه أمر مستحيل... يمكن أن أكتب عن بلد خيالي، عندها لن يحاسبني أحد، لكن لو كتبتُ عن فلسطين ’ح تطلع مصر مش فلسطين’".

لكنه استطرد: أنا أكتبُ عن فلسطين في ناحية أخرى، وذلك عندما أكتب عن العدل والظلم، فجوهر القضية الفلسطينية هو الصراع بين العدل والظلم... الكتابة عن القضية الفلسطينية والصراع مع الصهيونية له أكثر من باب، منها المباشر وهذا لا يتأتى إلا لكاتب خاض التجربة أو اكتوى بنارها عن قرب كغسّان كنفاني، لكن الصراع بيننا وبين إسرائيل ليس مسألة احتلال أراضٍ أو حرب أو لاجئين فحسب، فهو صراع حضاري مصيري، وفي هذا المنطق فكل ما يكتب من إيجابيات وسلبيات العالم العربي يدخل في القضية من الباب الآخر غير المباشر، فعندما تُهاجم أي سلبية فأنت تُعدّ العربي للحياة والصراع ضد العدو، وأنا ألجأ إلى معالجة القضية على مستوى التجريد، كما فعلتُ في "تحت المظلة"، أمّا المعالجة الواقعية فهي صعبة، لأنني لا أعرف الواقع معرفة تامّة.

وعبّر محفوظ في أكثر من مناسبة عن اعتزازه بما قاله عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش، مشيرًا إلى عبارة درويش الشهيرة عنه، ومفادها بأن "نجيب محفوظ نقطة إجماع عربية".

وحول فوزه بجائزة نوبل للآداب سرد محفوظ في أكثر من حوار أنه، وعندما عاد من مكتبه في جريدة "الأهرام" ظهر الخميس 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1988 إلى منزله، تناول غداءه وتوجه إلى النوم، لكن زوجته أيقظته على غير عادتها، لتخبره أن "الأهرام" اتصلوا به يقولون إنه حصل على "نوبل"، فطالبها بتأجيل الكذبة لأول أبريل، لكن محمد باشا، الكاتب الصحافي في "الأهرام"، وثم سلامة أحمد سلامة، مدير تحرير الصحيفة ذاتها، بادرا بتهنئته بالجائزة، فجلس ما بين مُصدّق ومُكذّب، إلى أن قرع سفير السويد جرس منزله، وقدّم له زهرية كبيرة على شكل كأس بلّورية.

لقد تحققت نبوءة العقاد بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وكانت في حوار تلفزيوني له عام 1963، ومن قبله د. لويس عوض، الذي توقع الجائزة له في عيد ميلاد محفوظ الخمسين عام 1961.

وكان محفوظ قبل حصوله على نوبل بأحد عشر عامًا، قال: لست عاتبًا على لجنة نوبل لأنها لم تنتقِ حتّى الآن أي اسم عربي، فمن الواضح أن جغرافية الأدب العربي لا تزال محدودة، والأعمال العربية ليست مقروءة بشكل واسع، بالنظر لانخفاض نسبة القرّاء العرب، وهذا العالم يُؤخذ بعين الاعتبار لدى منح الجائزة، وفي وقت لاحق. وتحديدًا عام 1983، قال: الأديب لا يرشّح نفسه لهذه الجائزة، ثمة جهة رسمية كوزارة الثقافة أو الإعلام أو التربية ترشحه باسم الدولة، ومصر لم ترشحني رسميًا لنيل هذه الجائزة.

أما في حوارات ما بعد الجائزة، فأكّد: كان شعوري مزيجًا من الدهشة والأسى... الدهشة لأنني لم أكن أتوقع الفوز بهذه الجائزة العالمية، والأسى لأنه لم يفز بها أساتذتي من قبلي، وأعني هنا: طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، مُرشحًا الروائي السوري حنّا مينة للجائزة التي وجد أنه يستحقها.

وبعد عامين على الجائزة، أكّد: تغيّر إحساسي بالجائزة بعد مرور عامين عليها... أعتقد أن أي فرحة تصبح عادة، ومع الوقت نسيتُ أنني حصلت على جائزة حتى لو كانت "نوبل"، ورغم ذلك فالجائزة تركت بصماتها في جوانب أخرى.

وكان لافتًا أن من بين ما قاله بعد تعرضه لمحاولة اغتياله طعنًا أمام منزله بحي العجوزة بالقاهرة، مساء الجمعة 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1994: سيعزّ عليّ كثيرًا أن أُرغم على الابتعاد عن الناس، وأن تكون بيني وبينهم حواجز أمنية... إن حياتي كانت دائمًا وسط الناس، ولم أرَ منهم إلا كل الحب... لماذا تريدونني أن أُحرم من دفء المشاعر الإنسانية التي طالما أحاطني الناس بها؟... مع ذلك لن أغيّر أسلوب حياتي، والله الذي حفظني، إذا أراد أن يحفظني سيحفظني، أما إذا كان الله يريد الأخرى، فأنا أحب أيضًا أن ألقاه.

وتناول الكتاب حكايات ومواقف محفوظ من مواضيع عدّة: القراءة، والمرأة، والسينما، والنقد، والعلم، والترجمة، والأدباء الشباب، والحرية، والديمقراطية، والثورة، وغيرها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.