}
عروض

"كتابة خلف الخطوط 2": يوميات الحرب على غزة

يوسف الشايب

11 أبريل 2024


"أخرج إلى أزقة تراوغها أشعة الشمس فتمنحها ضوء نهار جديد، أركب حافلة المقهورين مثلي، ملابسي نظيفة وقلبي ينبض بالحياة، عالق بين آهات وأصوات مرتفعة، تمتمات وصلوات، أذهب لتنظيف الممرات الطويلة داخل المستشفى التي يزورها الشبّان بأشلاء ممزقة، وطفل يبكي فتبكي حوله المدينة، أتقدّم منه، بخطوات هادئة، أختلي به قبل أن يشرع الأطباء بقطع القدم التي انبثق الدم من شريانها كنهر، أضع يدي على الجرح، أمسح بكفي الدم، ألهج بالدعاء فتلتحم الأشلاء لتتشكل من جديد، عدا عن بعض الندوب البارزة، بينما يهتز جسدي كأن طعنة ضربت القلب... يتوقف الطفل عن النحيب، يهرع الأطباء إليه وفي أيديهم آلات حادة، يحاولون نزع الغطاء الملوث بالدم، فيكتشفون أن القدم سليمة، سوى بعض الندوب، يهاتف بعضهم الآخر بدهشة: أين الطفل ذي القدم المدماة؟، يرد آخرون باستهجان: إنه هو، مقيدة بياناته في الملف على طرف السرير... يحاول الأطباء البحث مرّة أخرى في جسد الطفل، فلا يجدون سوى الضحكات... قلبي يؤلمني، عشرات السكاكين تطعنه، بينما يلهث الأطباء محاولين إجراء عمليات عاجلة لأطفال كثر، لكنهم يتراجعون حين يُبصرون الندوب في أقدام عارية بلا ألم".

هذا مقطع من قصّة بعنوان "أنهض من يقظتي، أغتسل من أوجاعي، والساعة نائمة"، وهي واحدة من "ثلاث قصص من وجع العدوان" للروائي والقاص يسري الغول، وواحدة من بين أربع وعشرين شهادة لكاتبات وكتّاب وفنانين ونقاد من قطاع غزة، اشتمل عليها الجزء الثاني من كتاب "كتابة خلف الخطوط: يوميّات الحرب على غزة" الصادر مؤخرًا عن وزارة الثقافة الفلسطينية.

وممّا كتبه الشاعر حيدر الغزالي، المولود عام 2004، وأصغر المشاركين في الكتاب، تحت عنوان "بكاء مُؤجل": "لو أن الموت لا يأتي على عجل، لجهّز البشر أنفسهم للرحيل، لفضّلوا الموت في أماكن يحبّونها، كشرفة المنزل مثلًا، يحملون كوب شاي في كفة، وقلبهم في كفة أخرى، لكن الأمر في غزة يختلف، فكلّ فرصة للحياة، هي فرصة للموت أيضًا... كأن الزمن قد توقّف، والرؤية قد انعدمت، حتى أزال كلّ واحدٍ يديه عن عينيه... لماذا نغطي وجهنا عند الخطر؟ لماذا لا نحمي قلبنا مثلًا، لماذا لا نحبّ أن نرى الحياة في أشد لحظاتها قسوة؟"، قبل أن يكتب مُستهجنًا: "لا أعرف كيف يتحوّل المرء فينا إلى أشلاء، لا أعرف كيف تخون أجسادنا نفسها، وتتطاير في الهواء، صعبٌ حين تجدُ يدًا، تسأل عن صاحبها بعد ذلك... لا أعرف إن انتهت الحرب يومًا، كيف سيعود الطفل إلى ذات المدرسة التي ماتت بها أمّه أو مات بها أخوه، هل سيركض في ساحة المدرسة، أم ستعلق الذكرى في قدمه، ويسقط".

وتحت عنوان "أيام الحرب" للكاتب سائد حامد أبو عيطة الذي فقد طفلتيه تالا وميرا في الحرب، وأصيب إصابة بالغة خلالها، دوّن من بين ما دوّنه: "كانت أسرتي مُكوّنة من ستة أفراد، وأصبحنا أربعة في لحظات، وكانت الصدمة والمأساة عندما علمتُ أن عددًا من أفراد عائلتي رحلوا أيضًا دون موعد... أمي التي تبلغ الستة وسبعين عامًا لم تخرج بعد النزوح من الشقة التي نزحتْ إليها، وكنت أخرج مع طفلي الصغير وزوجتي لنسير مسافات طويلة للوصول إلى المستشفيات، والحصول على القليل من الرعاية الطبيّة والحاجات الأساسية... والدتي بعد فقدان والدي واثنين من أخوتها مع أبنائهم وزوجاتهم وأطفالي وأطفال أخوتي وزوجة أخي والكثير من الأحبة، أصبحتْ تسرد قصص الموت طوال اليوم دون توقف، كنتُ أحاول إعادتها إلى صوابها، تارة تبكي وأخرى تضحك حين تسرد بعض الذكريات، أخيرًا نجحت في ضبط نفسيّتها لتكون مستقرة، لقد حاولتُ مرارًا أن أمنحها نوعًا من الاطمئنان، لقد كان فقدان الاتصال بالآخرين من الأقرباء نعمة إلى حد ما، فلم تتلق والدتي أيًّا من صدمات جديدة عن أخبار من تبقى من الأقارب والجيران والعائلة... كانت زوجتي تهرب خوفًا عندما أطلب منها تقديم المساعدة لإجراء الغيار على الحروق بأدوات طبيّة أقل من الحد الأدنى للرعاية المطلوبة، ظهري كان مفتوحًا يتسع لإدخال إصبع كامل، وكنت لا أستطيع النوم سوى وأنا جالس على الأرض، أحتاج لمن يرفع جسدي، ويجب أن أتناول خمسة أنواع من حبّات الدواء يوميًّا".

و"من رواق الخيمة" كتبت الشاعرة كفاح الغصين: "تفاصيل الحياة في الحرب موجعة، الحياة بمجملها فيها عبارة عن طوابير لا تنتهي، والناس جميعًا أصبحوا كثيران السواقي، يدورون طوال اليوم مغمضي العيون، بلا أرواح، بلا حياة... يجب الوقوف في طابور شراء الخبز، وهذا الطابور لم يطُل، فقد استهدفت الطائرات الحربية المخابز التي بالأساس شُحّ فيها الدقيق، وتم استبداله بالعجن والخبز في البيوت على الحطب بعد نفاد غاز الطهي عن آخره. يجب الوقوف في طابور المياه الصالحة للشرب، قد تقف ساعات طويلة لكي تحظى بـ"جالون" أو اثنين لا يكفيان للشرب أو للطبخ أو لإعداد الشاي والقهوة، تلك القهوة التي أصبح البائعون يقومون بغشّها لتصبح مسحوق حُمُّص أو ورق غار أو حبوب متنوعة محمصة يبِيعونها على أنها قهوة، ورغم إدراك المشترين ذلك، إلا أنهم يغضّون الطرف من باب "ريحة البر ولا عدمه"... وهناك طابور شحن البطاريات والجوّالات والأجهزة اللوحية، فلا كهرباء منذ بداية الحرب، ولا مصابيح تزيّن الشوارع السوداء، ولا شبكات إنترنت صالحة، ولا شيء مُباح سوى الموت المجاني القريب المُلاصق لكلٍ منّا".

وتابعت الغصين شيئًا من سرديّتها عن يوميّات الحرب: "طوابير كثيرة، ووجوه تتآكل يومًا بعد يوم، هامات تضمحل شيئًا فشيئًا لتصبح نقاطًا سوداء تسير دونما هدف، هكذا "كما اتفق"، تتفقد أحبابها دون الوقوع في الصدمات البديهية التي تحدث عادة عند موت أحدهم، أو موتهم جميعًا حتّى، فالتعاطي مع الموت وطامة موت الأحبة أصبح عاديًّا يتم التعايش عقبه بسلاسة، وكثيرًا كثيرًا ما تساءلت: هل ضياع الأحاسيس بهذا الشكل المرعب طبيعي؟ هل من الطبيعي تقبّل خبر موت حبيب لك، أو خبر دفن عائلة بأكملها من أحبابك تحت أنقاض بيتهم أو بيوت الجيران بسكوووون وصمت وكثير من البلادة؟ هل هذه الأشياء طبيعية أم أصبحنا جميعًا مرضى نفسيّين رغمًا عنا؟... تساؤلاتي المتكاثرة هذه، والتي تتحالف مع الطائرة الزنّانة تشرخ جمجمتي، تصيبني بصداع يقرّبني من الجنون".

وممّا كتبته الروائية والقاصة نهيل مهنا، تحت عنوان "البقاء في حي النصر": توقفت عن كتابة يومياتي في هذه الحرب القاسية منذ الأول من نوفمبر، ليس بسبب مللي ويأسي من أن تنتهي، أو لأنني عاجزة عن النجاة بنفسي وبذاكرتي، بل لأن موبايلي تعطّل، وقد كنتُ أكتب يوميّاتي من خلال تطبيق المفكرة فيه، فهو من ضمن الأشياء التي تعطلت كما تعطل الصبر والأمل والأحلام الطبيعية والتوقعات المستقبلية... ما زلت في غزة ولم أنزح إلى الجنوب كما فعل الآلاف من سكان غزة، ولكن انتقلنا إلى منطقة الوسط، وتركنا بيتنا الواقع في شمال غزة، وهذا كان قرارًا مشتركًا من العائلة لعدم وجود أقارب لنا هناك نقيم عندهم، وما زلنا نتحمل تبعاته حتى هذه اللحظة، ولكننا ننظر لأنفسنا بفخر وكأننا اتخذنا القرار السليم عندما نستمع إلى أخبار من هم في الجنوب، وصعوبة ظروفهم مثل شح الموارد الأساسية، وتكدسهم بالعشرات في شقة واحدة وأحيانًا في كراج... أن تبقى في غزة فأنت تم اجتياحك برًّا، وقطع خدمات الاتصالات والإنترنت بشكل كلّي عنك، كما أنّك على الأقل غيّرت مكان سكنك ثلاث مرّات، ونزحت أربع مرّات كحد أدنى، وقمت بتنظيف خمسة بيوت تقريبًا بغرض السكن، وقمت بلصق نوافذها بالنايلون، واشتريت علبة الفول بخمسة عشر شيكلًا، ورأيت جثثًا في الشوارع، وقططًا وكلابًا سمينة، وأشياء أخرى.

وتابعت مهنا: في الثالث من نوفمبر كان النداء الأخير لسكان غزة أن يتركوا بيوتهم ويتجهوا إلى الجنوب، غادر من تبقى من الجيران حولنا واتجهوا إلى وادي غزة، وساروا عبر الممر الذي لم يعد آمنًا تحت تهديد السلاح، وتعليمات صارمة بشأن تقليل الحمولات والأمتعة... امتلأ البيت الذي نقطنه بأمتعة الجيران لصعوبة حملها كلها، وكانت هذه من الأمور المحمودة في الحرب، لأننا احتجناها كلها بسبب فرض الحصار بعدها وإعلان قرار الاجتياح البري، لحسن الحظ مقاسي نفس مقاس جارتي ما مكّنني من مشاركة ثيابها، وكذلك ابنتي ذات الاثني عشر عامًا فمقاسها نفس مقاس ابنتها الوسطى... استمر النزوح إلى الجنوب عدّة أيام عبر طرق ملتوية إضافية، غادر الجميع وبقينا وحدنا وعائلة واحدة أخرى فقط في الحارة، أقصد في مدينة الأشباح التي كانت سابقًا تُسمّى غزة، وتحديدًا في حي النصر، في شارع النصر تمامًا، الشارع الذي كان يعج بالسكان حتى ساعات متأخرة من الليل... اقترب الخطر، وكبر الخوف، فلم أكن أعلم سابقًا أن الجيران ونس، وأن الموت مع الجماعة رحمة، هذه المنطقة التي تربّيت وترعرعت وقضيت أيام طفولتي فيها، والآن كبرتْ ابنتي وباتت تلعب مع أبنائهم فيا لها من مفارقة... اعتقدتُ أن مراحل العمر تتدحرج وتذهب بلا عودة، ولكنني اكتشفت أنها تعود وتتكرّر".

تجدر الإشارة إلى أنه شارك في الجزء الثاني من "الكتابة خلف الخطوط"، الذي يُعدّ مرجعًا مهمًا لتوثيق يوميّات الحرب على غزة، كل من: الروائي والقاص إبراهيم حمدان، والكاتب أحمد عاشور، والكاتب أحمد الكحلوت، والكاتب أكرم الصوراني، والكاتبة بيسان نتيل، والشاعر حيدر الغزالي، والشاعر والأديب خالد شاهين، والفنان المسرحي والمخرج زهير البلبيسي، والكاتب والباحث سائد أبو عيطة، والشاعرة والباحثة شاهيناز أبو شبيكة، والشاعر شجاع الصفدي، والأكاديمي والباحث عبد الرحيم الهبيل، والشاعر عرب محمد، والشاعر فداء زياد، والشاعرة كفاح الغصين، والممثل المسرحي محمد أبو كويك، والكاتب والشاعر محمد الزقزوق، والكاتب والناقد محمود روقة، والشاعرة ميساء عصفور، والشاعرة والمخرجة نجوى شمعون، والروائية والقاصة نهيل مهنا، والقاص هاني موسى، والشاعر ياسمين عابد، والروائي والقاص يسري الغول.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.