فالبرج يقدم للعالم، وهو الصادر بلغة إنكليزية بالأساس، درساً فنياً مهماً في التاريخ، بل في إعادة تكوين الرواية التاريخية للمأساة الفلسطينية المستمرة، عبر تسليط الضوء على الوضع القاسي للاجئين الذين لا يأملون بالتحول إلى أبديين في هذا المخيم، وكذلك على ذكريات الماضي، بالاستعانة بصور ومقاطع فيديو أرشيفية، مع الانحياز الذكي لتلك العلاقة العاطفية، ذات الدلالات المتعددة، ما بين "وردة" الذكية و"سيدي"، فيما مقاربة معبّرة تجمع ما بين الدمى وثنائية الأبعاد في الرسم، مانحة مساحة للقائمين على الفيلم بالعمل على إبراز قضية تتجاوز الانحياز السياسي إلى انحياز للقيم الإنسانية، وهو ما اختصرته عبارة "مهما كان عمق الظلام، حاول دائماً أن تجد أصغر شعاع من الضوء".
ورغم ما تسلل إلى "البرج" الفيلم هنا، من رتابة أفضت إلى ملل، وكلاشيهية في الطرح والصراخ الذي يعيدنا لأفلام حول القضية الفلسطينية كان يخرج بها الفلسطينيون ومناصروهم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ثمة اقتراب رقيق لتلك العلائق الإنسانية بعيداً عن أي ادعاء أو "بروبوغاندا"، حيث حاك الفيلم نسيجاً محكماً ما بين الأجيال المختلفة، التي نقل الواحد منهم إلى الآخر، انتهاء بوردة، ليس فقط "مفتاح العودة"، بل حكاية فلسطين: الهجرة، واللجوء، والوطن، وحق العودة.
عاشت وردة كأي طفلة في المخيم اعتادت على بيتها وتشابك المباني المتهدمة أو شبه المتهدمة، والأزقة الضيقة المليئة بأسلاك الكهرباء والمياه العادمة، لكن حالة عدم الاستقرار التي تتملك "سيدي" تثير فضولها، خاصة عندما ينقل "مفتاح العودة" من عنقه المليء بالتجاعيد إلى عنقها اللامع، ما وجد فيه الجيران تعبيراً عن حالة من "فقدان الأمل"، وهو ما يثير تساؤلات الماضي لدى وردة، حول الجذور، والأمل المستمر بالعودة، بقوة الروح أو قوة السلاح، وحالة اليأس التي تتملك المحيطين بها من المحكوم عليهم بالنفي الأبدي أو شبه الأبدي، وبالفقر والبطالة حد الفاجعة.
تقوم وردة بالعديد من الاكتشافات بينما تتسلق طوابق مبنى على شكل برج لتربية الحمام، مبنية بشكل متواصل من قبل أربعة أجيال متتالية من اللاجئين في المخيمات .. يطير الحمام ويحط على جسد "سيدي" الذي يفارق "وردة" كما العالم محمولاً إلى السماء بحمامات من ألوان متعددة، بينما تردد "وردة"، التي استوعبت حقيقة الأمور .. "عرفت من أكون، ومن أين أنا .. أنا من فلسطين".
وفي الفيلم ثمة ما يثير التساؤلات الكثيرة، بل والجدل، حول العلاقة بين المجتمعين اللبناني والفلسطيني، والحديث عن القتل المتبادل، إضافة إلى ذلك التقديم الذي بات من الضرورة تجاوزه لصورة اللاجئ الريفي ذي الملابس التراثية بطابع دون غيره، وكأن أصحاب الأرض الأصليين هم فقط حراس الأرض في الريف، في تجاهل يتواصل لخطورة تفريغ المدن الفلسطينية من سكانها الأصليين، تلك المدن التي كانت حواضر ثقافية عربية بامتياز، وشكلت منارات على مستوى الحضور السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والتربوي، والإعلامي، والنسوي، وغير ذلك، فكما في الدراما العربية تلفزيونياً وسينمائياً، تبقى صورة اللاجئ، إلا ما ندر، مرتبطة بالأرض بمفهوم فلاحتها، في تجاهل للمدينية الفلسطينية ما قبل النكبة، وهو ما وقع فيه القائمون على الفيلم.
أمضى غرورود عاماً في العمل في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين ببيروت، حيث قام بإعداد قصص بعض اللاجئين الذين قابلهم، ومن هذه التجربة، صاغ قصة "وردة"، وتمثل الجيل الرابع من أسرتها اللاجئة التي ما زالت تعيش هناك، مختصراً في ثمانين دقيقة، سبعة عقود من تاريخ لا يزال يعيش فيه الفلسطينيون نكبات متتالية، في رحلة الذاكرة نحو الجليل، فيما تكشف ذكريات أخرى عن مراحل مختلفة من التاريخ الفلسطيني، كصعود منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات من القرن الماضي، وتفجيرات بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والهجمات على اللاجئين في العام 1982، والتي صورت في تسلسل مؤلم ومبهر، كما حادثة قتل صديق جد وردة ابن "سيدي" برصاصة من قناص في العام 1986.
ومع ذلك لم يخل "البرج" الفيلم، كما "البرج المخيم"، من تلك اللحظات المفعمة بالفكاهة التي تجمع الحلو والمر في ذات الإناء .. إناء "وردة" التي تنتصر كما المخرج غرورود المشارك في كتابة النص أيضاً، الخطابي في شيء منه، وإن كان اعتماد تقنية الرسوم المتحركة خفف بصرياً من وطأة هذه الخطابية، كما هي الدبلجة المتقنة بشكل كبير إلى الدارجة التي تمزح اللهجتين الفلسطينية واللبنانية في إطار عنوانه نزاع يتواصل، ومعاناة تتعملق، وأمل غير مفقود.
وقال ماتس غرورود، عقب عرض الفيلم في مدينة رام الله: عندما كنت طفلاً، عملت أمي في لبنان أثناء الحرب كممرضة .. عندما كانت تعود إلى بيتنا كل ثلاثة أشهر، كانت تخبرني عن المخيمات وأرتني صوراً سكنت مخيلتي كما سكنت الفيلم أيضاً .. في العام 1989، وعندما كنت في الثانية عشرة من عمري، ذهبنا للعيش في القاهرة حيث عملت والدتي في المستشفى الفلسطيني .. انتهزنا الفرصة للذهاب إلى القدس وغزة خلال الانتفاضة الأولى، وفي نهاية التسعينيات، ذهبت إلى لبنان للمرة الأولى، ثم عشت في بيروت العام 2001 بينما كنت أعمل في منظمة غير حكومية في مخيم برج البراجنة .. هناك شاركت سكان المخيم منازلهم، وطعامهم، ويومياتهم، ولهم ولكل فلسطيني يناضل من أجل حقه في الأرض والذاكرة أقدّم هذا الفيلم.
وختم: أردت استخدام مهارات الرسوم المتحركة لفعل شيء مختلف، وليس مجرد إعداد فيلم وثائقي آخر عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، عمدت إلى الخروج بفيلم يحاول الوصول إلى جمهور جديد بطريقة مبتكرة، خاصة أنني لست فلسطينياً، ولكني مؤمن بعدالة القضية الفلسطينية.