}

"فيكتوريا وعبدول" : محاولة هزلية لغسل الدماء

سناء عبد العزيز 24 سبتمبر 2017
سينما "فيكتوريا وعبدول" : محاولة هزلية لغسل الدماء
بطلا فيلم "فيكتوريا وعبدول" (Getty)
تثير كل محاولة لمعالجة الماضي على غير حقيقته جدلًا واسعًا واستياءً يصل إلى حد الاشمئزاز في الغالب، كما حدث مؤخرًا لدى عرض فيلم "فيكتوريا وعبدول" للمخرج البريطاني ستيفن فريرز في قاعات السينما، إذ قوبل بالكثير من الانتقادات اللاذعة تتعلق بمحاولة تبييض وجه الاستعمار البريطاني في الهند، وكيفية التعاطي مع الماضي بشفافية وصدق، وضرورة احترام ضحايا الاستعمار البغيض بدلا من التنكيل بهم مرتين.

يدور فيلم "فيكتوريا وعبدول"، المقتبس من كتاب شيراباني باسو، حول علاقة صداقة لا منطقية بين خادم يدعى عبدول "عبد الكريم" تم استقدامه من الهند ليعمل لدى الملكة فيكتوريا ويهدي لها عملة نادرة، حيث تتوطد هذه العلاقة الغريبة بين الملكة وبين الشاب الهندي، وينجح في كسب ودها، ما ينجم عنه استياء حاشيتها ورفع أصابع الاتهام تجاه تلك العلاقة.  

 

العنصرية في رسم الشخصيات

غير أن موضوع الصداقة بين الملكة وخادمها ليس هو بالأمر المستنكر هنا، أو بؤرة النقد الموجهة للفيلم، بل بالأحرى الصورة التي تم بها رسم الشخصيات. فمثلا الملكة فيكتوريا التي جسّدتها ببراعة الممثلة البريطانية الحائزة على الأوسكار جودي دينش، ظهرت برّاقة للغاية، إذ يصفها زان بروكس، لصحيفة الغارديان، بأنها تبدو كـ"فارسة متحررة، تناهض العنصريين البيض"، وأنه لولا الخوف من المؤرخين ما كان ستيفن فريرز ليتورع عن تصوير فيكتوريا كـمثيل لـ"غاندي أو نهرو". في حين ذكر عمرو القاضي، في مقال له بصحيفة الإندبندنت تحت عنوان "فيلم فيكتوريا وعبدول مثال خطير لتبييض وجه الاستعمار"، أن الفيلم يصورها على أنها أكثر الملوك وعيًا بقضايا العدالة والمساواة في التاريخ البريطاني. فالملكة تثور بغضب شديد على حاشيتها حين لم تستسغ هذه العلاقة بين عبد هندي هو أحد رعاياها وملكة بريطانيا، ومن ثَمَّ تتهم فيكتوريا حاشيتها بالتعصب والعنصرية. ويصف القاضي مشاعره في مقاله للإندبندنت، بأنه غادر القاعة وثمة شعور بالغ بالامتهان يخالجه من مثل هذا التناول للتاريخ، الذي شبهه بحكومة المحافظين في محاولتها لإسقاط البلاد مرة أخرى في مزبلة العزلة، حيث تم التعامل مع الماضي بكثير من المراوغة لم يكن الهدف منها سوى محاولة تبييض وجه الاستعمار.

أما عبدول، الخادم الهندي، فقد جاء تمثيلا صارخًا للإذعان والخنوع بشكل يثير الإحباط، كما يصفه محرر الأفلام والناقد أندي ليا، في صحيفة ديلي إكسبرس، ما حدا به لتقييم الفيلم بنجمتين من خمس نجوم، مبررًا "إنها مادة تليق بمسرحية هزلية"، وإن أشاد ببراعة الممثلة المخضرمة جودي دينش.

 

حيوانات مدجّنة

من غرائب طبائع البشر التي تفتقر إلى تفسير منطقي، اعتيادهم على العبودية والقهر بحيث يتحولان إلى نوع من الشغف بتبجيل مستعبديهم. وكأن الشعور بالقهر يصاحبه شعور باللذة كأحد أسرار النفس البشرية. ربما يكون هذا من القراءات الخفية المطروحة من قبل ستيفن التي تتبدى من خلال معاملة الملكة لعبدول كأحد الحيوانات الأليفة، بينما نجد عبدول ينظر إلى الملكة ببراءة وعفوية يصلان لحد التبجيل وتقبيل الأرض تحت قدميها، على الرغم من فظائع الاستعمار البريطاني في الهند. إذ ينظر إليها على أنها "إمبراطورة الهند"، تلك الحقيقة التي يؤكد عليها الفيلم مرارًا وتكرارًا، حسب وصف القاضي، في مفارقة عجيبة للقبول بالمستعمر والتسامح مع جرائمه من دون اعتبار لمن قتل أو لتبعات تدخله الشائن الذي أودى بمصالح الوطن.  

وهنا يتساءل القاضي: "ماذا كسب عبدول؟ امتيازًا كبيرًا كونه أحد رعايا (الشعب المجيد) في الإمبراطورية البريطانية". وهذا ما يجعله يتغافل عن انتهاكات الحكم البريطاني لبلده وشعبه حتى بعد موت صديقه إثر تعذيبه على يد الحاكم الذي يقبل قدميه بمنتهى الإخلاص. وتنطلق صيحة اشمئزاز عفوًا من فم القاضي، كما يصف في مقاله لدى رؤيته للمشهد الأخير "حين يعود عبدول إلى الهند ويرى تمثال فيكتوريا مستويًا بجوار تاج محل في الهند، فينحني ويقبل قدميها". هذا المشهد الدال على نظرة المستعمر لانتهاكاته السالفة وغطرسته حيال جرائمه.

 

حقائق يستحيل طمسها

في كتابه "ما صنعه البريطانيون في الهند" يفضح شاشي ثارور، الوزير الهندي السابق، مدى الانتهاكات التي اقترفها المستعمر البريطاني في بلده من نهب موارده واستغلالها لأجل مصالحه، ما أدى إلى  تقليص حصة الهند من الاقتصاد العالمي من 23% إلى 4%،  وارتفاع نسبة الفقر بشكل غير مسبوق والمجاعة الكبرى من 1876 إلى 1878، وانتشار المجاعة في الهند في الفترة من 1899 إلى 1899، والتي تسببت في موت عشرة ملايين شخص، فضلاً عن جرائم قتل المدنيين والسكان الأصليين، ومجزرة جليانوالا باغ، وقتل ما يزيد عن ألف متظاهر سلمي على يد الجيش الهندي البريطاني، وسقوط الآلاف متأثرين بجراحهم.

يقول القاضي "إننا نتحمل مسؤولية ثقافية واجتماعية في استنطاق ماضينا الاستعماري بشفافية، حتى وإن كنا لا نشعر حياله بالرضى والارتياح".

كما تصف سيمران هانز، في الغارديان، بأن "الفيلم يحاول بتكلّف إعفاء الملكة فيكتوريا من المسؤولية الاستعمارية، ويصورها، بشكل غريب، على أنها متسامحة ومنددة بالعنصرية". وتستأنف هانز أن "هذا النوع من التنقيح التاريخي هو بمثابة تمديد يعمل في أحسن الأحوال كخيال ملكي لطيف، وفي أسوأ الأحوال، يثبت تأييده للاستعمار والإمبراطورية بوصفه شيئا تقدميا".

لم ينجح الفيلم إذًا في تحقيق مآربه في طمس تاريخ من التعسفات والانتهاكات والمجازر البشرية، وتبييض وجه المستعمر، عن طريق رسم ملامح ملائكية للملكة تعيد الاعتبار للعصر الفيكتوري، حتى وإن كانت باعتراف عبد هندي الأصل. وجاءت محاولة إعفائها من المسؤولية التاريخية كنوع من التعسّف، أثارت المزيد من الاشمئزار بدلاً من التعاطف. ولعل تزييف الماضي عمدًا من خلال تلك الأفلام، يعد من الخطورة بمكان ويستدعي انتباه كل من الكتاب ومخرجي الأفلام. حيث تكشف تلك المعالجة عن غطرسة متأصلة لدى المستعمر وكيف يرى نفسه في مرآة ذاته. تلك الغطرسة التي لم تنته بانتهاء فترة حدوث تلك الجرائم، بل تمتد مع كل محاولة لطمس معاناة أمة عن طريق لي عنق التاريخ.   

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.