}

مشروع كشاش: محاولة لتخطي حاجزي الزمان والمكان

سناء عبد العزيز 8 ديسمبر 2017
بدأ اختفاء "كشاش الحمام" من سورية منذ عام 2011 بعدما تحولت أسطح المنازل إلى نقاط تمركز لأشكال القوى المسيطرة كافة، ومن هنا جاءت فكرة "مشروع كشاش" للقيّمة السورية ألمى سالم، إذ ترى فيه استعادة رقصة الحمائم في سماوات سورية برشاقتها وخفتها، بدلاً من جحيم الأعيرة النارية والطيران الحربي بكل هذا الثقل، فالمشروع كما تستطرد ألمى "بمثابة دعوة إلى سماء حرة ومساحات حميمية للأمان والتأمل والروحانية".


وزاد في الأمر واقع إصدار تنظيم داعش في سورية في عام  2015 قرارًا بمنع تربية الحمام وسجن وجلد الكشاشين وبرروا ذلك بأنه مضيعة للوقت وإلهاء عن الفروض، ما دفع بالبعض لتربية الحمام خفية داخل غرف مغلقة.

وإن كان اختفاء الكشاش من سماء سورية، ما قدح زناد المشروع، فإن في الاقتراب من هذا العالم الخاص والحميمي بين البشر والطير، ما سيجد في اختيارات ألمى في "مشروع كشاش" إضافة فنية وبحثية مهمة. إذ يقوم هذا المشروع وفقًا لمقاربة غير تقليدية لموضوع غير تقليدي أصلًا، من هنا استعانت ألمى بمجموعة من الفنانين البصريين Visual Artist، والفنانين والمسرحيين والباحثين والكتّاب السوريين المنتشرين في بقاع شتى من العالم، نذكر منهم حسان عباس، وحنان قصاب حسن ورشا عباس وخليل يونس ولواء يازجي وإبراهيم فخري وعمار البيك وغيرهم.




يجدر التذكير بأن الكشاش مفردة تطلق على مربي الطيور في سورية، ومصدرها الفعل "كش"، التي تعبر عن حركة اليد لإبعاد الطائر، أي تسريحه ليرفرف بجناحيه في الفضاء. ويتحفظ المُخرج السينمائي عمّار البيك في حوار أجرته معه جمانة الياسري على استعمال تلك المفردة، إذ يراها قاصرة، ويفضِّل تسمية "مطيّر"، "لأنها تعبّر عن القدرة على التحكُّم بحركة الطيران، أي التحكُّم بالطبيعة والغريزة، مما يتطلَّب بناء علاقة خاصة جداً ومتينة مع الطيور. كما أنها تحمل بعداً صوفياً في عالم يضع شروطه المطيّر وتخضع له الطيور. يستخدم كشاش الحمام منديلاً ليكش الحمام، أي ليُبعده، كما يمكن أن يرمي عليها حجارة فتطير، وهي أفعال غير مستحبة. أما المطيّر، فيكفي أن يصدر صوتاً معيناً، قد يكون عبر تحريك زريعة السطح أو ضرب قدمه على الأرض بشكل معيَّن، أو أن يصدر صفيراً خاصاً، حتى تتنبَّه الطيور وينطلق السرب".


عن المعرض الجوّال

تطرح حنان قصاب في ورقة مقدمة للمعرض تحت عنوان "كشاش الحمام، تراث يزول"، أن "الكشاش كائن غامض. مفتون بما هو زائل، ومسحور بما يستعصي على الإمساك. يبدو للآخرين وكأنه يتبع ما يمكن أن يكون مجرد سراب أو وهم أو رؤيا. هو إنسان يعزف عن الملكية المادية التي يتسابق عليها الآخرون، ويكتفي بامتلاك بعض الحمامات الطليقات، مقامراً بحظّه وما يحمل له من مفاجآت: فالحمامات يمكن أن تتزايد وتحمل له ثروة، لكنها تستطيع أيضاً أن تذهب بلا عودة، وأن تتبخر في السماء مثلما تتبدد سحابة صيف". ويتفق هذا مع رسالة الفن، فهو القوة الناعمة التي تستعصي على الإمساك، بوسعه كسر الحواجز وتخطي الأسوار ومقاومة سياسات الخوف والقمع والتطرف. ولكنه يبدو للبعض كائنًا هشًا حين تصبح القوة المناوئة له متجسدة في صورة أكثر شراسة، صوتها مدويا في أعيرة النيران والمدافع والقنابل، ووجودها ملموسًا في جيوش أكبر الدول العظمى في العالم، التي نقلت ساحة صراعها إلى الأراضي السورية تخوض معاركها وتحقق أهدافها وتضرب بعضها بعضًا على غير أرضها. لكن للفن رغم كل ذلك، قوة موازية لا تقل خطرًا عن قوة الأسلحة والسلطة والاستبداد، بل قد تفوقها كثيرًا، بقدرته على الفضح والتعرية وإصابة الهدف في الصميم.

ولطالما فعلها الفن، مجتازًا كل تلك المعوقات ونافذًا عبر الشقوق الرهيفة بنعومته الفائقة وقدرته المدهشة على الاختراق. ولذا قام محمد خضر بنشر فيلمٍ قصير تبليغاً لمعاناة المدنيين بعيداً عن مشاهد الدم التي اعتاد أن يراها العالم المعاناة الوحيدة في سورية.

ويقول خضر إن هنالك عدّة أهداف من نشر فيلم رسوم متحركة عمّا حصل، منها تقديم عزاء لهؤلاء الذين عانوا من قتل طيورهم، فمن رأى حالتهم عبر فيلم تأثر أكثر، وكأن الأمر بمثابة تأبين وليشعر أنه مع حمامه يستطيع تقديم قصة توضح حجم المعاناة ولكي لا يذهب موتها مع أدراج الرياح.




هكذا يتوسل المشروع برسالة الفن، ويقدّم مقابلة مع كشاش/ فنان، هو عمَّار البيك، فيجوال آرتيست، مُخرج سينمائي، ومُطيِّر حمام سوري من مواليد دمشق (1972) ويقيم الآن في برلين، ليدلي بشهادته حول تلك المهنة التي كادت أن تنقرض. كما يستكشف الحدود بين كشاشي سورية والسريالية والهلوسة والأحلام والكوابيس. فيعمل كل من زياد علوان وزوجته مي سعيفان على استقبال الأحلام التي تتراءى للمواطن السوري في منامه وعرضها للعامة،  كما يغوص المشروع في التفاصيل الجزئية من قاموس لغة "الكشاشين السوريين"، وشخصيّة الكشاش وما يتعلق به وبفضاءاته وأمكنته، من خلال مجموعة أبحاث ستظهر في كتاب سينشر في إبريل/ نيسان القادم.

حدثتني ألمى كذلك عن قصة قصيرة كتبت خصيصًا من أجل المشروع، بالإضافة إلى تحقيق صحافي في الرقة حول بيان الدواعش ومقتل كشاشي حمام الرقّة، وينتهي بالتحليق والنظر بعين الطيور إلى صورة المدن السورية المدمّرة.

وقد بدأ المعرض أولى جولاته في هولندا في نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، متجولاً في أربع مدن هولندية، الهيج، أمستردام وأوتريخت، وروتردام. ودعا جمهوره إلى مشاهدة تكنولوجيا الواقع الافتراضي وعدد من الأفلام الوثائقية، ومجموعة من الأعمال الفنيّة المعاصرة الرقمية، وبعض الأعمال الممتعة من الفن المفاهيمي. وحرص أثناء تجواله في المدن الأربع على دعوة كوكبة من الفنانين والباحثين والكتّاب والنقّاد السوريين والهولنديين حول موائد مستديرة، لفتح سلسلة من الحوارات بهدف تسليط الضوء على بعض القضايا موضوع البحث. كما يدعم قضايا كشاش حملة كتابة على الجدران تفاعلية على الإنترنت. ولترك بصمة تذكارية من جولة معرض "كشّاش" هذا الخريف في هولندا حرصت المنصّة على رسم جدارية في أمستردام، ترافقها حملة مفتوحة من بخّ الغرافيتي في كل مكان، وجمع تواقيع إلكترونية من أجل الحريّة لسماء سورية.




سورية فضاء سادس

يعتبر كشاش أول مشروع تطلقه منصة "سورية فضاء سادس"، وهي منصّة مستّقلة مهمتها بحث وعرض الفّن المعاصر، وتوفير فضاء بديل يجمع فناني سورية الذين تشتتوا في بقاع عدة من العالم، حيث بات اللقاء في زمان ومكان بعينهما ضربًا من المستحيل. وتقدّم المنصة مجموعة من المعارض الجوالّة الخاصّة بما يسمى بـ"الفنّ المفاهيمي"، كما تلتقي لدى تجوالها مع جمهورها وجهاً لوجه بشكل مؤقت، ولها في الوقت نفسه حضور ومعارض دائمة على الإنترنت.

تضيف القيّمة "إذا استحال تجمّعنا في المكان والزمان، فلدينا فرصة للالتقاء عبر عالم افتراضي وتجاوز حدود الزمان والمكان وفتح المجال أمام استكشاف مساحات جديدة للفنون الرقمية، والفنون الافتراضية، والفنّ الإعلامي المنتشر عبر الإنترنت، باقتحام تلك الأبعاد غير التقليدية".


تسعى "سورية فضاء سادس" إلى تحدي التعاريف المتشنجّة لمفاهيم الهويات والاستحالة، والاستقطاب، والاغتراب عن طريق تعريف مفهوم جديد للانهائية المكانية، بكونه فضاء شاملاً جذرياً ويشمل علم المعرفة، وعلم الأنطولوجيا، والحركية التاريخية المستمرة والتي تتخطى الثنائيات، والإشارة إلى "آخر - الآخر" المنفتح صوب الغيرية، وإلى التوسيع المستمر للمعرفة المكانية. وتستطرد ألمى "إن العالم وما وراءه هو مجال النفوذ الذي نسعى إليه، وإسقاط جميع أنواع الجدران والخوف من الآخر المختلف". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.