}

عاريات موديلياني في "تيت مودرن" بعد مائة عام

سناء عبد العزيز 5 ديسمبر 2017
تسمر أحد المارة - قبل مائة عام - ذاهلًا أمام إحدى لوحات أميديو موديلياني (1884 -1920)، المعلقة في نافذة معرض بيرث ويل في ديسمبر/ كانون الأول 1917، وكان ذلك هو المعرض الأول للفنان. وعلى الفور تحركت الشرطة في باريس لإغلاقه، اعتراضًا على تلك التفاصيل الضاجة بالشهوانية لانحناءات جسد أنثى عارٍ.


موديلياني في ضوءٍ مغاير

بعد مرور مائة عام من هذا الحدث يستضيف متحف "تيت مودرن" بالعاصمة البريطانية لندن، في الفترة من 23 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 2 نيسان/ إبريل  2018 معرضًا يضم لأول مرة 12 لوحة عارية لموديلياني، وهي أكبر مجموعة من لوحاته على الإطلاق تتم استعادتها في معارض المملكة المتحدة حسب تصريح قيّمة المعرض نانسي إريسون لصحيفة الغارديان، التي عبرت عن انفعالها بتلك الجملة "يا له من أمر رائع! إننا متحمسون للغاية"، فهذه المجموعة من لوحات موديلياني نادرًا ما يتم عرضها في الأماكن العامة، بسبب تقصيها لأدق تفاصيل جسد الأنثى بحسية مذهلة.

يهدف القائمون على المعرض إلى تسليط ضوء جديد على أعمال موديلياني، الفنان الذي اشتهر في المقام الأول بأسلوبه البوهيمي في الحياة، وملاحقته للنساء ومعاقرته للخمر والأفيون والحشيش والكوكايين. تقول سيمونيتا فراكلي، المتخصصة في أعمال موديلياني، والتي شاركت في تنظيم المعرض: "أتمنى أن يرى الزوار في أعماله المنتقاة أكثر مما يعرفونه أو يتصورنه عن الفنان، فعادة ما يتسرب إلى حس المتلقي لأعمال موديلياني أنها جميعها تدور حول الشيء نفسه؛ بمعنى أن موديلياني يكرر نفسه في أعماله، فالوجوه هي ذاتها والعري هو موضوعها الأساسي، ولكن في الواقع الأمر ليس كذلك".

تضيف فراكلي "إن ما يدركه المرء عقب تجوله في المعرض بأكمله، متنقلاً من لوحة إلى لوحة، هذا التطور التدريجي البطيء في خطوط موديلياني الأنيقة وإدخاله لعناصر جديدة وجذابة قد لا يفكر فيها المرء عادة. وإذ يظل الأسلوب المميز لفرشاة موديلياني واحدًا، فثمة تعديلات واختلافات تحدث شيئًا فشيئًا داخل كل لوحة".

وبفضل الشراكة الرائدة HTC Vive، ينقل المعرض أيضًا الزوار إلى قلب أوائل القرن العشرين في باريس، باستخدام أحدث تكنولوجيا الواقع الافتراضي؛ حيث يتضمن المعرض أول صالة عرض بحجم مرسم موديلياني لتمكين الزائر من معايشة الواقع الافتراضي عن طريق ارتداء نظارات إلكترونية من شأنها أن تعيده إلى استديو الفنان الصغير، بفوضويته المعبأة بدخان التبغ.

كما سيتم عرض تسع منحوتات لموديلياني، وإن كانت الأقل شهرة من بين أعماله، فإنها تتميز بفطرية طازجة وقدرة على إثارة التفكير باستلهامها للزخم الأفريقي، فضلاً عن بورتريهات لأصدقائه ومحبيه ومعاونيه، بما في ذلك بابلو بيكاسو، كونستانتين برانكوسي وشريكته جيني هيبوتيرن. وقد يعود السبب في قلة منحوتاته إلى إصابته بالربو في طفولته، فرئتاه الضعيفتان لم تكونا لتحتملان غبار نحت كتل من الحجر الجيري.

 



بورتريه لوجه الفنان

ولد موديلياني في ليفورنو، في مقاطعة توسكاني بإيطاليا، في عام 1884، لأبوين يتحدران من إحدى عائلات يهود السفارديم، وتتراءى توسكاني التي ولد فيها من خلف ضباب في اختياره للألوان الباردة كتأكيد على أثرها الباهت المترسب في ذاكرة الطفولة. وقد كان لولادته الفضل في عدم مصادرة أملاك الأب عقب إفلاسه، بموجب قانون آنذاك ينص على عدم مصادرة سرير الأم حديثة الولادة. لذا احتالت الأسرة بتكويم كل مقتنياتها الثمينة على سرير الأم، فتعذر على اللجنة الاقتراب من تلك الأشياء وبذا تمكنت الأسرة من الاحتفاظ  بآخر ما تبقى لديها.

 نشأ موديلياني مريضًا، يلازم فراشه لفترات طويلة، ما جعله يستثمر عدم مبارحته الفراش في قراءة أعمال بودلير ونيتشه وغيرهما من الكتاب. وفي الثامنة عشرة من عمره، قرر موديلياني أن يمتهن الفن، وسافر عام 1906 إلى أفضل مكان على وجه الأرض يتيح له تحقيق مطامحه؛ العاصمة باريس. وهناك التقى كوكبة من الفنانين وتشارك معهم المرسم والحياة، ومن بينهم بيكاسو ودراين وخوان جريس ودييجو ريفيرا، وقد تأثر بخطوط بيكاسو، ولعل هذا تسبب له في كثير من الإزعاج، إذ يقول "أنا أحد ضحايا بيكاسو".

كما تأثر موديلياني عبر رحلته الفنية بثقافات عدة، فأخذ عن الإيطاليين تقديسهم لجسد الأنثى، وعن اليونانيين البساطة والرمزية في التعبير، وعن الهنود الصخب والحسية المفرطة، وعن آلهة المصريين القدماء الأناقة والنبل في نظرة المرأة. وكان لتعرفه على النحات الروماني برانكوزي أكبر الأثر في اتجاهه إلى النحت، إلا أنه ظل طيلة حياته الفنية القصيرة يبحث عن أسلوبه الخاص؛ لذا لم ينتم إلى مدرسة بعينها، فكائناته بأجسادها الأسطوانية وأطرافها المستطيلة، وخصورها المنحوتة بدقة، والتصاقها بسطح اللوحة، هي من اختراعه الخاص.

ويبدو الموت هاجسًا لدى الفنان من خلال بورتريه بقناع الموت رسمه قبل وفاته لنفسه. كما كتب على إحدى لوحاته: "الحياة هبة، سواء للذين يعرفون ويملكون أم لأولئك الذين لا يعرفون ولا يملكون شيئًا".




وتكتمل أبعاد مأساة موديلياني الذي لازمه المرض طيلة حياته بعدم تحققه كما كان ينبغي له في عصره، ولم تبرز سمات ثورته الفنية إلا قبل وفاته بقليل، فنادرًا ما كانت تجود عليه الحياة ببيع إحدى لوحاته، وكثيرًا ما كان يستعين بوكيله في شراء أدواته وتوفير أقل قدر من الضروريات للاستمرار على هامش الحياة. 

وفي عام 1919، حين بدأت لوحاته تحقق بعض الذيوع والانتشار لم يمهله المرض، فسقط فريسة ربوه المزمن إلى أن مات وهو في الخامسة والثلاثين. وفي اليوم التالي لوفاته أقدمت صديقته جيني هيبوتيرن التي كانت حاملاً على الانتحار بإلقاء نفسها من النافذة، تاركة ابنة لهما، تولت أخت موديلياني تربيتها، إلى أن كبرت وكتبت سيرته تحت عنوان "موديلياني: الرجل والأسطورة". وخلدت السينما قصّة الحب تلك في عام 2004 بفيلم عن حياته، قام بإخراجه ميك ديفيس ولعب دوره الأميركي أندي غارسيا، بينما قامت بدور "هيبوتيرن" الفرنسية إلسا زيلبيريستين، ويتناول الفيلم محطات من حياته وطريقته في الرسم.

وتبرز المفارقة المريرة في تنافس المتاحف العالمية على أعماله بعد وفاته وبأسعار رهيبة؛ فقد بيعت لوحته "العارية على الوسادة" بمبلغ 170.4 مليون دولار في كريستيز، كما بيع رأس منحوتة من الحجر بنحو 60 مليون دولار في عام 2010.

مغويات موديلياني البائسات

كانت فترة الحرب العالمية الأولى هي فترة انكباب موديلياني على رسم لوحاته العارية، حين اضطر الكثير من الشبان للذهاب إلى ساحة المعركة، وبات الخواء ملازما للأنثى في تلك الآونة التي امتدت لسنوات، وهو الوقت الذي أعطى للمرأة المزيد من فرص العمل والاستقلال. "فقد لا يتزوجن، وقد يعشن وحيدات". تقول إريسون "لقد كان العمل كموديل أكثر ربحية للمرأة على الصعيد المادي، لأنها كانت تتقاضى عن عملها كموديل ضعف ما قد تتقضاه في أحد المصانع".

وسواء ظهرت عارية موديلياني جالسة بكفين متشابكين، وخطوط حادة أو رهيفة تكشف استدارة الثديين والخاصرة النحيفة، أم مستلقية على أريكة حمراء مع وسادة، أم ممتلئة بانحناءات جسدها المثيرة في الظهر والردفين والمؤخرة، أيًا كان الوضع الذي تتخذه عاريات موديلياني، فكلهن يؤطرن للحظة كاشفة، تتجاوز العري إلى مرحلة من تطور الأنثى، قبل أن يخضع الجسد الضاج بالحياة لصيرورة الزمن. لذا تأمل إريسون أن يرى زوار 2017 فيه ما هو أكثر من مجرد لحمٍ عارٍ. وتستطرد: "تشعر أن هؤلاء النساء يصورن شخصياتهن". "نعم، هن مجرد موديلات، ولكن في كثير من الأحيان تظهر خياراتهن في تصفيفة الشعر وكذلك في الماكياج الجريء للغاية".

كما تشي وجوه نساء موديلياني بمشاعر متباينة، فبعضهن عصبيات، وبعضهن منسحبات تمامًا إلى الداخل، والقليلات منهن واثقات جريئات، إلا أن ملامح البرود والهدوء والمحايدة والاحتراس من العالم، هي السمات المشتركة بين الجميع، مع شعور بالاغتراب والانفصال عن الواقع يتبدى في مقلة العين الضيقة التي تخفي أكثر مما تظهر، لتبرز المقابلة الصارخة بين العري الكامل للجسد والأغوار العميقة في عينين لوزيتين ضيقتين يقبع داخلهما كائن متوارٍ لا يستبين!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.