Skip to main content
أطفال الندى (2): أتذكّرُه متربِّعاً على الأَرض
محمد الأسعد
من أطلال قرية لفتا التي هجّر أهلها الاحتلال الإسرائيلي عام 1948

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.




أتذكّرهُ متربّعاً على الأرض، وبين يديهِ علبة التبغِ يحدّقُ في البعيد بشواربه التركيّة الكثيفة وعينيه العَسَليّتين الساهمتين. هكذا يحضر في الذاكرةِ من لا اسمَ له ولا أصلَ ولا بيتَ ولا صوت.

كان شيئاً من الماضي، يلحُّ على الحضور دائماً، فكيف أعرّفهُ؟ اسمهُ لا يرنّ... مثل معدنٍ ثقيلٍ من الرصاص المُعتم، لا أميّزُ فيه أيّ نقشٍ أو خطٍّ، تقولُ عنه امرأةٌ ما، إنّ مأساتهُ بدأتْ أثناء الحربِ العالمية الأولى فقد كان متزوّجاً من جنّيةٍ ترافقهُ في كلّ مكان؛ تحفرُ له الخندق وتحميهِ من الرصاص، هذا الجندي العثماني الساهم الآن... إذن هو شيء آخر غير هذه الصورة الساكنة... ما عدا حركة يديهِ وهو يلفُّ لفافة التبغِ... وهو يدخّنها، فيغطّي الدخانُ الكثيفُ مثل غيومٍ وجههُ النحاسيَّ... وشاربيهِ وعينيهِ الثابتتين في البعيد.

أراهُ متربّعاً... ولكنّه كان متحرّكاً في ماضيه البعيد، تقف إلى جانبهِ زوجته الجنّية وتحميه... وفجأةً ينقلبُ المصيرُ فيعود إلى قريتهِ، ليجدَ أنّ الجنّية قد سبقته. ولسببٍ ما، نراها تهدم البيتَ على زوجته وأولاده.

تقول المرأةُ: "إنّها تناديهِ ويهرعُ إليها. وكثيراً ما كان يهبُّ من نومهِ على صوتها ويندفعُ خارجاً. واعتدنا أن نربطه إلى سريرهِ بحبلٍ حتى لا ينطلق وراءها".

لقد تحرّكَ في الذاكرة، وصار الرجلُ قصّةً تُروى بلسانِ غيرهِ. وحين كنّا صغاراً يحيطُ بنا الظلامُ وصوتُ المرأة الرَّاوية، كان الرجلُ بشاربيهِ وعينيه العَميقتين يتسيّدُ على خيال الصغارِ ويواصلُ حياته. ألهذا السبب، في انتقالهِ إلى الأسطورة، ظلَّ حيّاً؟! تُرى ماذا كان اسمه واسم الآلاف الذين اعترضوا طريقَ الصغيرِ في خروجهِ من عتمة الماضي؟ إنّه صورةٌ مثلما هي الصور العديدة ولكنّه يبدو أشدّها وضوحاً، وتشبّثاً بالبقاء. اجعلْ من نفسكَ شيئاً قريباً من الأسطورة تستطع أن تعيش وتبقى شيئاً خارقاً يسقطُ خارجَ حافة النسيان.

يخترق الغرباء الصمتَ العائليَّ ويكسرون مؤامرة إبقاء الصغارِ وراء الجدران

ومع ذلك... فكلّ شيء ينقطع إذ لا تمتلك تفصيلاً آخر تضيفه إلى قصّة الرجل... عاشق الجنّية العجيبة التي دمّرتْ حياته وعقله، وجعلتهُ طافياً مثل جثّةٍ ذهبيّة أو قناع لا يشفّ عمّا وراءه.

ولكنْ هناك آخر يبدو أشدّ أُلفةً... عجوزٌ يهتزّ من البردِ في مكانٍ أليفٍ تغطّيه بطانيةٌ وتحيطه رعاية عشراتِ الأيدي والأحاديث والدفءِ... تراه يمسك بيديه المرتجفتين صحنَ حساءٍ أو شيئاً شبيهاً بذلك... وتسألُ من يكون؟

تقولُ أمّي إنّه جدّي.

وتندهش من ذاكرتي، وتحاول أن تذكّرني بأسماءٍ وأحداثٍ أُخرى. ولا أتذكّر، وأترك لها أن تروي لي ما كان يحدث في ذلك الجزء من العالم الذي كنتُ فيه ولم أكن.

ذاتَ يوم كما تقول أمّي ابتلعتُ فحمةً. نعم فحمة سوداء، وكِدتُ أختنق. ولكنّ إحدى الخبيرات بمثل هذه الحوادث استطاعت إنقاذي. لا أتذكّر!
ذات يوم انقضّتْ حيّةٌ من وراء السِّلسلة الحَجرية، وأمسكتْ بأرنبة صغيرة من أرانب البيت من أذنها، وحاولتْ أن تسحبَها عبر السِّلسلة الحَجرية، فلم تستطع، وأفلتتِ الأرنبة. يقول والدي: "كانت الأرنبة الصغيرة تنتفضُ وقد تحوّل لونُها إلى أحمر داكن، فأسرعتُ إليها، وأمسكتُها ثم كويتُ جبينها، وبهذه الطريقة نجتِ الأرنبة".

لا أتذكّر..!

أنا أسيرُ الآن في أسطورة ولا أتوازى معها، وأحاول الاندماجَ فيها بحثاً عن خلودٍ خاصّ أو نوعٍ من الحياة كان خامداً، وأسيرُ في طرقِ الأحداثِ التي كانت قبل ميلادي أو بعده. ويحدث كثيراً أن أحلمَ حلماً يكاد يكون دائماً عن عودتي إلى قريتي فيعود الأمواتُ أحياء، وأُدهَش كيف أنّهم قالوا لي إنّ فلاناً ماتَ وإنّ فلاناً قد دُفن منذ زمنٍ طويل وإنّ قريتنا احتُلّتْ... فكلّ هذا غير موجود في الحلم. 

ولكن في مرّاتٍ أُخرى، يكون الحلمُ في الحاضر كما يبدو، فأراني وقد جئتُ إلى القرية واختلطتُ بهؤلاء المستوطنين اليهود، ونجوتُ من الحواجز بمعجِزة... إذ لا هوّية... ولا دليل شخصيّة من أيّ نوع أحمله. ويُسيطر على جوِّ الأحلام مناخٌ من الدخَان. إنّه مشهد تكرّرَ كثيراً. 

حرائق صغيرة في كلّ مكان. ربّما كانت حرائق أكوامِ القمحِ بعد الحصاد، حيث تحرقُ أكوام القشّ لتكون سماداً في المواسم المقبلة، ويتحرّك الناسُ في هذا الجوّ الشتائيّ مثل أشباح، إنّهم بعيدون دائماً لا يتكلمون. حلمٌ زراعيّ لا أشكّ أنّه يستعيد طقوساً كانت موجودة منذ آلاف السنوات... حتّى ولو لم أكن موجوداً آنذاك... إذ يحدث كثيراً أن يعيش الإنسانُ أيّام ما قبل ميلاده في الأشياء الباقية، ويتولّاه شعورٌ غريبٌ وهو يقرأ نصَّاً مؤرَّخاً في زمنٍ لم يَكُن فيه موجوداً. ومع ذلك فبمجرّد أن يمتلَّكه ويفهمَه يتغلغَل فيه إحساسٌ بأنّه كان موجوداً.

لا شيء يَجري في القصص يمكنُ أن يكون خارج العالم

ويحدث كثيراً أن يشمّ الإنسانُ رائحة ما، فتهبّ على ذاكرتهِ وكيانهِ عوالمُ منسيّة قد يكون صعباً تحديدها إلّا أنّ الشعور الجارف بالحنين والغبطة يجعلها حقيقية في مكان ما. أليس للخرّوبِ الأسودِ مثل هذا الطعم؟

إنّه يبعثُ بمجرّد تذوقهِ عالماً كاملاً... أماكنَ ووجوهاً ولحظات... وكنّا نحبّه على شكلِ مربّى يسمى الرُبَّ، وتقفز إلى ذهني هذه الكلمة، فأفهمها مباشرةً. وتقول أمّي: "كنتُ أعمله لكم في الشتاءِ وأعملُ أشياء كثيرة"، وتتنهّد كما لو أنّها تستيقظ من أسطورة ويسود الصمت.

في الصمتِ نشأتْ أشياء كثيرة. وأكاد أتخيّل أنّ الطُّرقَ المؤدّية إلى قريتنا كان يتجوّل فيها الصمتُ وحدهُ... عائلة من الصَّمت والهمسِ القليل... حتّى لا يكبرَ الصِّغار فجأةً ويقفزوا من طفولتهم إلى مغامرة غير محسوبة، أو حتّى تتسنّى لنا حمايتُهم من الجنّياتِ... ومن ذلك الذي يُستعاذُ بهِ باسم الله... ولكن ليس كلُّ الكِبار من العائلة... وليسوا من المهتمّين بحدائق غيرهم. وهكذا يحدث أن يخترق الصمتَ العائليَّ غرباءُ يكسرون مؤامرة إبقاء الصغارِ وراء الجدران... أو يخترقه خيالُ الصغارِ أنفسهم، فيعيشونَ مقارَنات ومشابَهات عجيبة.

تقصّ أمّي حكايةً عن شابٍّ ينعزل في الجبال، وتسمّيه دائماً "أبو الشباب". وأشعر وأنا أصغي إليها أنّها تعني أخي الكبير الذي ظلّ هناك في فلسطين لسببٍ ما لا أفهمه.

وحين تقصّ حكاية الحسناء الأصيلة، أحاول أن أجد حولي مَن تشير إليها، وكذلك أحاول اكتشاف مَن يكون ذلك الذي هجرَ أهلهُ وحمل حقيبة من الذهب باحثاً عن فتاة أحلامهِ. لا شيء يَجري في القصص يمكنُ أن يكون خارج العالم. ونشعرُ بهذا من لهجة القصّة ونبرةِ الصوتِ والحشرجة، والبكاء أحياناً، فنحسّ - نحن الصغار - أنّ الأمر ليس أمر حكايةٍ تُحكى... بل هو أمرٌ يتّصل اتصالاً حميماً بالراوية.

يحدث أن يشمّ الإنسانُ رائحة ما، فتهبّ على ذاكرتهِ عوالمُ منسيّة 

يقولُ أحد الأصدقاء: "إنّكم تستنفرون ذاكرتكم دائماً، ونشعر حين يتحدّث أحدكم أنّه محتشدٌ حتى الحافّة بكلّ ماضيهِ"، ويعني بذلك صديقنا خيري وآخرين تشتعل الذاكرة دائماً في أوديةِ وقِمَم أحاديثهم.

فماذا يحدث إذن لو يحضر كلُّ شيء من أدقّ تفصيل فيه، وينهارُ الفاصلُ بين الحكاية ومن يرويها؟ لسببٍ ما لا أدري كنهه، لم أستطع الاقتناع بأنّ قصص أمّي لم تكن ممّا حدثَ لها ولأهلها أو للجماعة القروية كلّها... وخاصّة بعد أن تحوّلتْ حياتُهم الماضية إلى قِصص تُروى.

كلُّ شيء يمكن أن يتحوّل إلى حدثٍ وقصّة: الحجر والبيت، وهذه الزاوية من الكرم، وهذا الموسم، وذلك الشتاء، ولكنّ الوالد لا يتحدّث كثيراً، فما زال قانونُ الصمت هو الساري، أمّا الأم فكثيراً ما كانت تبدأ قِصصها هكذا بلا مناسبة... وحتى بلا حضور مَن يسمع أحياناً. إنّها تتحدّث وتروي أشياء لنفسها... ربّما، كأنّها شخص آخر يخاطب آخرَ ويجادله. 

ويُمكن أن يكون هذا هو سبب نزعة الحوار الداخلي التي نشأتْ معي، إذ يبدأ الحوار بموقف يخلق فيه الإنسانُ شخوصاً مع حوارِهم، ويراقب الحوار أو يتدخّل فيجادل ويتحاور، ويُقيم مسرحاً خياليّاً لحسابه الخاصّ. وغالباً ما يكون ماضينا هو هذا المسرح الذي يتمّ عليه تعديل وتحوير الماضي، وجعله أكثر واقعية وصدقاً وحميمية.

إنّ مسرحنا هو الماضي التامّ، ولكنّ كلَّ شيء فيه لم يُصادَق عليه نهائياً. فما دام الممثّلُ والمخرجُ والمشاهدُ هو شخصٌ واحد فيمكن التدخّل وتوجيه المسرحية في أيّ لحظة. هكذا يُعاد بناءُ ماضينا بدون أن يعنيَ ذلك أننّا نفرض رغباتنا الأنانية. إنّنا نودّ أن نفهم العالم، أن نُعيد توعية النفس بالرموز والإشارات، فكلّ شيء من الماضي يقود إلى الحاضر. إذن هو النبوءة التي صدقتْ... هو الرمز الذي ألقى به هاتفٌ في سمع الصغير. وها هو بعد أن كبرَ، يجد نفسه مسؤولاً عن تفسير الهاتف.

كان جمعُ النسوة يتحرك في دائرةٍ حول حفرةٍ في الأرض مع صوتِ عويل متواصل، وكلّ امرأة من النائحاتِ النحيلاتِ تبدو متّشحةً بالسوادِ، منثورةَ الشعر، تلوّح بمنديل أو بشيء شبيهٍ بهذا. الصراخُ يصمّ الأذنين. ومن زاوية الصغير الذي ينظر، كانت النائحاتُ بطول النخيل، وأصواتهن تحشد الفضاءَ بالأنين.

لم يكن قد مرّ على تحوّلِ العَالمِ إلى كلِّ ما هو غريب ومثير للتساؤل غير سنتين أو ثلاث. وكانت فلسطين هي القبر/ الرّمز الذي تدور حوله النائحات. إنّه طقسٌ زراعي آخر لانبعاثِ الخصوبة من عمق الجفاف.

صديقنا الجندي التركي يصحو أحياناً، ويسمع جنّيةً تناديهِ، فيهبُّ وينطلقُ خارج البيت والكون. ولو لم يكونوا يربطونه بالحبلِ أثناء نومهِ، أين كان يُمكن أن ينطلق وأيّ مدى سيجري فيه إلى أن يصلَ إلى أمّ الزينات على السفحِ الجنوبيّ للكرمل؟ أعتقد أنّه كان سيجري ويجري إلى أن ينتهي هناك، ليبكي عند جدار بيتٍ محطمٍ بينما تشرق عليه الشمسُ الدائمة... شمسُ جنونه العظيم.

 

 

المزيد في ثقافة