Skip to main content
"الأدب الفلسطيني المقاوم" لغسّان كنفاني: أرض ترتكز عليها البنادق
شوقي بن حسن ــ تونس

كثيراً ما يُختصر كِتاب "الأدب الفلسطيني المقاوِم تحت الاحتلال: 1948 ـ 1968" (1968) لغسّان كنفاني باعتباره "نبوءة" مبكّرة بأن تجارب شابة مثل محمود درويش وسميح القاسم ستحقّق مسيرةً أدبية حافلة. لكنّ ذلك لا يعدو أن يكون اختزالاً لطموح المؤلّف، إذ إن العودة إلى الكتاب ــ بعيداً عن هذه المقولة الجاهزة ــ ستؤدّي بنا إلى مساحات قراءة مختلفة، تجعل من الكتاب راهناً وليس مجّرد توقّع بمآلات جيلٍ أدبي.

تبدو الجملة الافتتاحية مدروسةً بعناية؛ إنها المدخل الذي يُفضي إلى الإشكالية البحثية للكتاب: ما الذي يقدّمه الأدب خدمةً لهدفِ مقاومةِ سياسات التدمير النفسي والاجتماعي للفلسطينيين؟ يكتب كنفاني: "ليست المقاومة المسلّحة قشرة، هي ثمرةٌ لزرعة ضاربة جذورها عميقاً في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير".

هكذا تقودنا سلسلة الجُمل القصيرة هذه إلى الوظيفة التي ينبغي أن يلعبها الأدب، والثقافة بشكل عام (السياسة جزءٌ منها ضمن تصوّر كنفاني) ليُسدي خدماته بشكل ناجع إلى بقية عناصر منظومة المقاومة. الثقافة ــ بالنسبة إلى المؤلّف ــ هي "الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلّح"، والعمل هو أشبه بقراءة في الاستراتيجيات الخِطابية التي حكمت تحرّكات الشعراء وكتّاب القصة والمسرح في ظلّ مرحلةٍ (1948 - 1968) يسمّيها كنفاني بـ"الأسْر الثقافي".

كيف يخدم الأدب المقاومة؟ سؤالٌ لا يزال يحتاج إلى مزيد تفكير

يُفصّل صاحب "عائد إلى حيفا" واقع الكتابة الإبداعية في تلك الفترة، ضمن شهادة دقيقة وموثَّقة، فيضيء سياسات التجهيل التي يتعرّض إليها العرب تحت الاحتلال، وحين تفشل هذه الخطّة تظهر سياسات التضييق الأخرى على المُصرّين على ممارسة حياتهم داخل هويّتهم الأولى، حيث إن "المتعلِّم الفلسطيني"، أي ذلك الذي أفلت من فخّ التجهيل، يجد نفسه أمام حربٍ نفسية واقتصادية وبدنية (الاعتقالات).

هذا المسح الميداني، إذا جاز التعبير، يتيح لكنفاني أن يستنتج أن أدب المقاومة ينشأ رغم شراسة الإجراءات الصهيونية، ليس تجاه الأدب في حد ذاته، بل قبل ذلك ضدّ اللغة والذاكرة، فالهدف هو محو الثقافة الفلسطينية كما مُحيت قرى كثيرة من على الأرض. ويلاحظ كنفاني أيضاً أن أدب المقاومة ليس طارئاً بعد "النكبة"، فقبل ذلك وُوْجِه الانتداب البريطاني أيضاً بأدبٍ مقاوِم من أبرز أسمائه: عبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان، وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي)، كما أن أثر المقاومة يحضر في الشعر الشعبي الشفوي.

أفق المقاومة يُتيح للشعراء أن ينضجوا بسرعة

حين يبدأ صاحب "موت سرير رقم 12" في فحص النصوص، يخرج بخلاصاتٍ أبرزها أن أفق المقاومة يُتيح للشعراء أن ينضجوا بسرعة. وقد لاحظ كنفاني أن الأشعار الأولى لمحمود درويش وسميح القاسم تتّصف بـ"رفضٍ عصبي" للواقع و"ضعف في البناء الفنّي"، لكنهما سيشهدان "تطوّراً نوعياً ينمو من تلقائه من خلال الممارسة الفعلية للمقاومة".

ومن الملاحظات الدقيقة التي يسوقها أن هزيمة 1967 قد أفرزت حالة من الخيبة والانكسار في مجمل الشعر العربي، لكنّ نصوص شعراء المقاومة الفلسطينية تميّزت بتلقٍّ إيجابيّ يُعبّر عن الصمود والوعي بما هو أبعد من الحدث الآني. يحيّي كنفاني في الأثناء وظائف أخرى بات يؤدّيها الشعر المقاوم، ومنها أنه لا يمرّ حدثٌ في الفضاء العربي لا يؤرَّخ في الشعر.

الصورة

كان منطلق بحث كنفاني دراسة مجمل الأدب المقاوِم في فلسطين المحتلّة، ولكنّه انهمك في تناول الشعر على حساب بقية الأجناس الأدبية، وهو أمرٌ يبرّره بأن القصة والمسرح لم يصلا إلى ما وصله الشعر من التحوّل إلى ظاهرة لها فاعلية في الواقع، مُشيراً إلى أن الظروف لم تُلائم غير الشعر كي يحقّق ذلك.

مرّ زمن طويل على النقطة التي توقّفت فيها دراسة غسّان كنفاني (عام 1968)؛ يمكن أن نستأنف نفس الإشكالية التي طرحها، فلا تزال نابضة بالراهنية: كيف تخدم الثقافةُ المقاومةَ؟ من الصعب أن ينهض الشعرُ وحده بذلك كما كان؛ بات من الضروري أن تُسنده بقية أشكال الكتابة، حتى أبعد من دوائر الأدب؛ وهل يمكن السير قُدماً دون إضاءات فكرية؟