Skip to main content
سفح الدموع

مدونة عامة

عبد الكريم البليخ

عندما أطالع بعض صحفنا العربية، وبعضها صحف عريقة، أشعر بما يشبه الحزن والأسى. ففي هذه الصحف دعوة صريحة لسفح الدموع وشق الجيوب وتعذيب النفس، وأشعر بالأسى أكثر لأن هناك من يدفع أجر هذه الدعوة، من البسطاء من الناس وعشاق الندب والبكاء على الأطلال!

ففي غالبية الصحف العربية تخصص صفحة كاملة، وأحياناً صفحتان وأكثر، لنعي الموتى ولدعوة الأصدقاء والأقارب للاحتفال بمأتم الفقيد، وأحياناً للاحتفال بمرور أربعين يوماً على وفاته.. ولربما بمرور سنة أو خمس سنوات على هذه الوفاة!

والذين يقرأون الصحف هذه الأيام سيجدون أنَّ عدوى "النَدب" هذه قد انتقلت إليها، إن لم تكن بكل تفاصيلها فبشكل يوحي بأنها -مرغمة أو راغبة- سائرة على ذات الطريق التي سارت وما زالت تسير عليهما الصحافة العربية بصورة عامة!

دلالة كل ذلك أننا ما زلنا مغرمين بتعذيب النفس -بل وإذلالها أحياناً- تماماً كما كان أجدادنا الأولون من الشعراء يفعلون عندما لا يجدون ما يستهلون به قصائد الغزل، أو قصائد حرق البخور على أعتاب السلاطين والولاة، سوى البكاء على الأطلال التي درست، كأنما لا يجوز للشاعر أن يبدأ قصيدته إلّا بسفح الدموع!

لا يحق لنا أن نطلب من الآخرين أن يحترموا فينا ما لم نحترمه نحن داخل ذواتنا..

حين أفكر في هذا الأمر ـ وكثيراً ما فكرت فيه بل وأوذيت بسببه ـ تصفعني حقيقة واحدة، هي أننا ما زلنا شعب يكره الحياة، وهو بالتالي يكره نفسه لأنه ما زال يعيش حبيس التوابيت والأقبية التي خلفتها له عصور الذل والانحطاط!

وفي ظني أننا -وقد أدرنا ظهورنا للحياة- فإنه لا يحق لنا أن نطلب من الآخرين أن يحترموا فينا ما لم نحترمه نحن داخل ذواتنا.. وفي ظني أيضاً أننا ما لم نحرق التوابيت ونهدم الأقبية التي حبستنا فيها الصفحات المعتمة في تاريخنا الطويل المشرق، فإننا سنظل أمة لا تملك إلّا أن تبكي على الأطلال كما فعل الأجداد، أو أن تبكي على صفحات الصحف كما يفعل الآن الأحفاد، وكما يفعل أخوتنا العاملون في الصحف العربية من فنيين ومحررين طوال الوقت، بالندب على الراحلين، وهو عنوانها الأبرز.. وليستمروا في هذا الطريق الذي صار، وللأسف، مفروشاً بالرياحين والورود، وهذا ما تبحث عنه الصحف جميعها لجهة زيادة مردودها المادي من المساحات الإعلانية التي تبحث عنها ليل نهار، بواسطة عملائها، لكسر حاجز المبالغ الكبيرة التي تدفع بها هنا وهناك، والمطلوب منها دفعها ليصار إلى استمراريتها.

وهذا باب آخر من أبواب الدفع بتحريك أوجه الصحيفة من أجل التخفيف من الأعباء المادية الضخمة التي تنفقها، والتي تدفع بها بهذا الاتجاه، ومن خلال الإعلان يمكنها أن تخفف من الأعباء المادية الكثيرة، وتحقق ريعية مالية تمكنها من دفع رواتب العاملين فيها، من محررين وفنيين وعاملين، وإن تجاوز ذلك الحد المسموح به، إلّا أنه يظل ذلك هو الحل الأسلم الذي يمكن أن تختاره رغماً عنها لنجاحها واستمراريتها، بدلاً من أن تتوقف عجلات مطابعها عن الدوران، ولجوئها من ثم إلى الإغلاق، وهذا ما حصل مع العديد من الصحف العربية التي توقفت عن الإصدار بصورة نهائية!

مدونات أخرى