Skip to main content
مُنتحل شخصية الملا منصور الذي أهان ذكاء الاستخبارات الغربية
منير الماوري ــ واشنطن
يُعرف قادة "طالبان" بتخفّيهم (طارق محمود/فرانس برس)
عندما نجحت الاستخبارات الأميركية، السبت الماضي، في قتل زعيم حركة طالبان أفغانستان الملا أختر محمد منصور خليفة الملا عمر، بغارة جوية جنوب غرب باكستان، بدا أنّها تثأر لأجهزة الاستخبارات الغربية وجواسيسها ليس من الزعيم شخصياً، بل من صاحب متجر أفغاني انتحل شخصية الملا أختر منصور، ونجح قبل أعوام في استغباء الاستخبارات الأميركية والبريطانية على مدى أشهر عدة، جنى خلالها أموالاً طائلة. فقد فاوض القروي الأفغاني شبه الأُمّي أصحاب الأجهزة الذكية على إنهاء الحرب الأفغانية على أساس أنّه الملا منصور، ليتضح لاحقاً أن الرجل ليس الملا بل محتال أجاد انتحال شخصيته وإهانة الأجهزة الغربية.

أما الملا أختر فلم يكن حينها قد تولى زعامة "طالبان" رسمياً، بل كان واحداً من أبرز قياداتها المقربين من زعيم "الحركة" آنذاك الملا عمر، والمرشحين لخلافته قبل أن يخلفه بالفعل في يوليو/تموز 2015. ومن المفارقات المضحكة أن أجهزة الاستخبارات الغربية عندما أحرزت تقدما كبيراً في المفاوضات المزوّرة مع منتحل شخصية الملا أختر، عمدت إلى استثمار النتائج بتسريب بعض أسرار تلك النجاحات الواعدة إلى الصحافة. وعلى الرغم من غزارة التفاصيل الواردة في تلك التسريبات، لم يدر أحد بالصفعة القوية التي تعرّضت لها وكالات العمل السرية وأجهزة التجسس الغربية في هيبتها، إلا عندما تحولت الفضيحة إلى قصة خبرية تصدّرت عدد صحيفة "نيويورك تايمز" في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2010.

وفي وقت لاحق، أوردت صحيفة "تايمز" البريطانية أن جهاز الاستخبارات البريطاني "أم أي 6" تولى إحضار الشخص الذي انتحل شخصية الملا منصور لبدء مفاوضات سلام مع الحكومة الأفغانية وقوات حلف شمال الأطلسي. وقال مسؤول أفغاني كبير للصحيفة إن "أجهزة الاستخبارات البريطانية أبدت سذاجة لا تقل عن تلك التي تخصّ الاستخبارات الأميركية في تصديق الأمنيات".

وقال الموفد الأميركي السابق إلى قندهار بيل هاريس لصحيفة "تايمز" إن "هذا الخطأ لا يتحمله البريطانيون والأميركيون وحدهم"، موضحاً أن "حماقة من هذا النوع تكون عادة نتيجة عمل جماعي". وأقر القائد الأعلى للقوات الدولية في أفغانستان، الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس في تلك الأيام، بأنّ منتحل شخصية أختر خدع مسؤولين أفغانا وغربيين بانتحاله شخصية قيادي في "طالبان". وقال في تصريحات صحافية نُشرت في حينه، "ساورتنا بعض الشكوك في المسألة منذ البداية، ويبدو أن شكوكنا كانت في محلها".

وتناقلت وكالات الأنباء العالمية والصحف الكبرى الصادرة بمختلف اللغات سخرية المعلّقين من "المقْلب" الذي انطلى على أجهزة استخبارات غربية يُفترض أنها تجيد مهارات الانتحال والتضليل، وتمارسه ضد الغير بدلاً من أن يمارسه أحدهم ضدها. وكثُرت تساؤلات المحللين عن كيفية وقوع الأجهزة فريسة سهلة لاحتيال وتضليل قروي أفغاني لم يلتحق بأي دورة تدريبية انتحال الشخصيات وتزوير الهويات.

ويُعرف قادة حركة "طالبان" الكبار بتخفّيهم، والاحتياطات الأمنية الشديدة التي تمنع ظهورهم العلني، واحتكاك الناس بهم عن قرب، إذ لا توجد للزعيم السابق، الملا عمر سوى صورة أو اثنتين نادرتَين التقطهما له مراسل قناة الـ"بي بي سي" في أفغانستان منذ فترة طويلة. ولا أحد يعرف الشكل الذي يبدو عليه الزعيم السابق للحركة قبل موته، بمن فيهم زملاؤه الذين عاصروه لسنوات قبل بزوغ حركة "طالبان". ولم يُشاهد الملا عمر في العلن منذ عام 2001، فتزايدت الشائعات عن وفاته في السنوات القليلة السابقة لإعلان الوفاة رسمياً منتصف العام الماضي. ويُرجح الجهاديون أن الملا منصور كان يدير مجلس السلطة العليا في "الحركة" (شورى كويتا) منذ فترة طويلة، الأمر الذي دفع عددا من القياديين المستائين للمطالبة بظهور الملا عمر.




ويمكن الاستدلال من توصيف رئيس وزراء باكستان نواز شريف للغارة التي نفّذتها طائرة "درونز" (من دون طيار) لاغتيال زعيم "طالبان" الملا أختر، بأنها انتهاك لسيادة باكستان، باعتبار أنّ الاغتيال جرى داخل الأراضي الباكستانية، في إقليم بلوشستان. ومن غير الواضح، ما إذا كان الملا أختر منصور مقيماً في باكستان بصفة دائمة أو الزمن الذي قضاه داخل الأراضي الباكستانية قبل الضربة الأميركية التي أودت بحياته.

ويعتبر الملا أختر منصور أبرز شخصية تغتالها الولايات المتحدة داخل باكستان منذ مقتل زعيم "القاعدة" السابق أسامة بن لادن عام 2011، خلال تواجده في منزل بمدينة أبوت آباد. ومثل ما كان عليه الحال في عملية تصفية بن لادن، قال مسؤولون أميركيون إن عملية قتل الملا منصور تمت بتفويض من الرئيس الأميركي باراك أوباما، وتثبت استعداد واشنطن لملاحقة قيادات "طالبان" التي تتهمها واشنطن بتنفيذ عمليات إرهابية.

وإذا كانت التهمة الموجّهة للزعيم أختر إرهابية، فإن القيادي المزوّر، منتحل الشخصية، لم يُستهدف بأية غارة مماثلة، لأن جريمة الانتحال أقل شأناً من الإرهاب حتى وإنْ كانت انتحالاً لشخصية إرهابي. وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد نقلت حينها عن دبلوماسي غربي في كابول شارك عن كثب في المفاوضات مع منتحل شخصية أختر القول، "أعطيناه الكثير من المال". وأكد مسؤولون أميركيون أن القيادي الوهمي في حركة "طالبان" التقى الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي بعدما تم نقله جواً إلى كابول على متن طائرة تابعة لحلف "الأطلسي"، ومن ثم إلى القصر الرئاسي.

وتتألف قيادة "طالبان"، إلى حد كبير، من رجال دين قرويين وشبه أُمّيين، ونادراً ما يتسنى لأحد في "الأطلسي" أو حتى للمسؤولين في حكومة كرزاي الالتقاء بأحد منهم. ويقول مسؤولون أميركيون إن شكوكهم بدأت تحوم حول هوية الرجل الذي زعم أنه الملا أختر منصور بعد الاجتماع الثالث له مع المسؤولين الأفغان، الذي عُقد في مدينة قندهار الجنوبية. وقال مسؤول أفغاني عرف أختر منصور قبل سنوات من انتحال شخصيته، إن الرجل الموجود على طاولة المفاوضات لا يشبه الملا أختر منصور من قريب أو بعيد.

وأثناء المفاوضات الوهمية التي وصلت تسريباتها إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، طلب مسؤولون في البيت الأبيض من الصحيفة حجب اسم الملا أختر منصور من تقرير بشأن المشاورات السرية تحت مبرر القلق من تعريض المحادثات معه أو تعريض حياته للخطر. وقالت الصحيفة إنها وافقت على حجب اسم أختر منصور مع حجب اسمَي قائدَين آخرين في "طالبان" لم يتضح مستواهما القيادي في "الحركة". وبعد تسلّم القادة الوهميين لمبالغ كبيرة من المال، ذهبوا بها ولم يعودوا، وفقاً للجريدة.

في غضون ذلك، أسفرت مداهمات أميركية ـ باكستانية مشتركة عن اعتقال نائب قائد حركة "طالبان" عبد الغني برادر، في مدينة كراتشي الباكستانية. وسرّب مسؤولون باكستانيون معلومات تفيد بأن اعتقال برادر كان مدبّراً من قبل المخابرات الباكستانية عقاباً له على انخراطه في مفاوضات سلام مع الأميركيين من دون إذن من الاستخبارات الباكستانية.






وعلى الرغم من اكتشاف الأميركيين في نهاية المطاف أن المفاوض الرئيسي لم يكن أختر منصور بل شخصاً آخر انتحل شخصيته، لم يتمكنوا من تحديد الهوية الحقيقية للمحتال، بل احتاروا في تفسير دوافعه. وعلى الرغم ممّا ذكره مسؤولون باكستانيون لصحيفة "واشنطن بوست" عن أن الرجل المنتحل شخصية الزعيم الطالباني هو صاحب متجر صغير في مدينة كويتا الباكستانية، فقد اختلفت التفسيرات والاجتهادات عن حقيقة الرجل.

هناك من يفترض أن المنتحل لم يكن أكثر من نصّاب مستقل تظاهر بأنه قيادي في حركة "طالبان" لكسب المال، في حين رجح آخرون احتمال أن يكون قد أُرسل من قبل جهاز المخابرات الباكستانية التي تجيد لعب الأدوار المزدوجة. كما ظهرت فرضية ثالثة بأن منتحل شخصية الملا أختر قد يكون عميلاً بالفعل لـ"طالبان"، إذ إن الحركة لديها جهاز استخبارات خاص تعمل به عناصر توصف بأنها أكثر ذكاءً من الأميركيين في التعامل مع الأوضاع الأفغانية. وعلى الرغم من أن زعيم "طالبان" السابق، الملا عمر نفى في رسالة مفترضة منه (قبل وفاته) كتبها على الأرجح، كما يُقال، الملا أختر منصور، وجود أية محادثات على أي مستوى مع من سمّاهم بـ"الأعداء الماكرين"، فإن من بين المسؤولين الأفغان في كابول مَن اعتقد أنّ منتحل شخصية الملا أختر قد يكون في واقع الأمر ممثلاً له ويتحدث باسمه.

ومهما كانت هوية الرجل، فإنه بحسب مصادر مقربة من المشاركين في المفاوضات معه، بدا موضوعياً جداً خلال محادثاته مع الأميركيين، ولم يُطالب بانسحاب القوات الأجنبية من بلاده كما كانت تفعل "طالبان" عادة. بل تضمنت المقترحات التي تقدم بها عناصر رئيسية عدة لتحقيق السلام هي، وفقاً لـ"نيويورك تايمز"؛ السماح لقادة "طالبان" بالعودة آمنين إلى أفغانستان، واستيعاب الجنود التابعين للحركة في وظائف، والإفراج عن أسرى الحركة لدى الحكومة الأفغانية.

وكشفت الخارجية الباكستانية، بعد مقتل الملا منصور، عن أنه تم العثور على جواز سفر في موقع الضربة يحمل اسماً مختلفاً عن الملا، وتأشيرة إيرانية صالحة. ويؤكد هذا ما نُشر، سابقاً، في مواقع جهادية من أنّ أختر منصور كان على رأس وفد رفيع المستوى لـ"طالبان" مؤلف من 11 شخصاً زار إيران منتصف العام الماضي. وأضافت مصادر أخرى أن حامل جواز السفر يُعتقد أنه عاد من باكستان آتياً من إيران في اليوم ذاته الذي استُهدف فيه بالضربة الأميركية. والاسم المدوّن في جواز السفر هو والي محمد لكن الصورة المدمجة فيه مشابهة للصور القديمة المتاحة لمنصور.

ولا يستبعد مراقبون أن تكشف المداولات التي تجريها "طالبان"، حالياً، لتحديد مستقبل "الحركة" بعد مقتل أختر منصور، وتعيين الملا هيبة الله أخوند زاده خلفاً له، على نحو دقيق، هوية منتحل شخصية الملا أختر في حال تطابقت الفرضية الثالثة عليه بأنّه من المقربين فعلاً من الملا منصور، إذ سيكون من السهل على أجهزة الاستخبارات الغربية التعرف إلى الشخص الذي فاوضته أشهرا عدة، إذا كان المُنتحل بين المقربين من الخليفة الجديد.