Skip to main content
موكب الوشائج في وداع قابوس
محمود الرحبي
قابوس في احتفال بمناسبة يوم عُمان الوطني (21/11/1997/Getty)
بوفاة السلطان قابوس، تُطوى صفحة زعيم عربي استطاع أن يتعامل مع الجميع من مسافة سلامٍ واحدةٍ جعلت بلدا كان، حتى عهد قريب، يقبع على هامش التاريخ والجغرافيا، تُمزِّق أطرافَه الخلافات، يحتل مكانةً متقدّمةً في دبلوماسية فضّ النزاعات، في عالمٍ تمور فيه وتلغّمه حروب، بعضها علني وبعضها باردٌ غير معلن. كما عرف عن السلطان اهتمامه بالفنون والموسيقى الراقية، حيث أسّس وزارة تحمل مسمّى وزارة الفنون، وفرقة حملت اسم فرقة عُمان للموسيقى السيمفونية، وأطلق إذاعة خاصة بالموسيقى الكلاسيكية. وهناك لحنٌ يحمل بصمة الموسيقار محمد عبد الوهاب بعنوان "عام الشبيبة"، إلى جانب تأسيسه جوائز دولية للسلام والبيئة.
بفضل السّلام الذي سعى إلى إشاعته في عالم يغلي ببؤر التوتر، لم تكد تُعلَن مغادرته دنيانا الفانية هذه بدقائق معدودة، حتى ضجّ الفضاء الشبكي بأخبار نعيه، وتقديم التعازي في فقده الجلل. أصواتٌ متنافرة ومتباينة، من جميع المشارب والتوجّهات والانتماءات، تركت كلّ اختلافاتها جانبا وكتبت معزّيةً. على تنافرها وتجاذبها وخلافاتها ومفارقاتها، هدأت في لحظةٍ، وانسجمت لتتحد في إيقاع واحد ونقل مشاعرها إزاء رحيل السلطان قابوس. هكذا كتب نجل الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي: "لن ننسى للسلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله، إرسال برقية عزاء لنا بعد وفاة والدي.. كان رجلا في وقت الأزمة". وكتبت الدكتورة عائشة، ابنة الرئيس الليبي السابق معمر القدافي: "كنتَ لنا المأوى والسند، كنت الوفاء والإخلاص. رحلت يا رجلا في زمن انقرضت فيه الرجال.. نعزّي شعب السلطنة، ولا نقول إلا ما يرضي الله، إنا لله وإنا إليه راجعون". وهيلاري كلينتون أنعشت الذاكرة بحادثة مهمة، حين كتبت معزّية، وذكّرت الأميركان الذين توسط السلطان قابوس لإطلاق سراحهم في إيران، وهو نموذج تكرّر كثيرا طوال فترة حكم السلطان الراحل. كل تناقضات العالم اجتمعت، إذن، لتقديم العزاء في رحيله، وفود زارت عمان من الفرقاء في اليمن، حوثيين وحكومةً انتقالية ومجلسا جنوبيا؛ حركة حماس والرئاسة الفلسطينية؛ إيران والغرب.
في خضمّ ذلك، لم تعد الأخبار تقتصر على ما تجود به القنوات الرسمية، إذ تناقلت وسائل التواصل صور مئات العُمانيين وهم يفدون بتلقائية إلى المقبرة للترحّم عليه، وقراءة ما تيسّر من السور على روحه المحبّة للسلام. بل وردت صور من أفريقيا لأشخاص وهم يبكون على رحيل السلطان، أو يصلّون صلاة الغائب في جوامع وبأعداد غفيرة.
وإذا كان المتابع لمراسم العزاء الرسمية لرحيل السلطان قابوس سيلاحظ هذا الحشد الهائل والمتنافر، الذي ليس على وفاقٍ في ظاهره السياسي، فإن تفسير ذلك أن الراحل استطاع أن يشيع توازنا كيميائيا عجيبا في علاقته بالجميع. وجسّدت لحظة رحيله مكانةً شخصيةً احتلت، على مدى خمسين عاما، أهم المبادرات الرامية إلى تكريس السلام، وهو الوحيد الذي لم يشارك الخليج في الحرب على اليمن، وتجنّب زجّ نفسه أو بلده في حروبٍ بليدة، لا تجلب غير الدمار في البشر والعمران. وهكذا جمع، في حياته كما بعد مماته، أشخاصا مختلفين جذريا في توجهاتهم ومنطلقاتهم، وأوجد توازنا خارجيا من موقع احترام كل الأطراف الدولية، على الرغم من تناقضاتها الظاهرة.
وإذا كان كل هؤلاء من قادة العالم وأبنائهم وممثليهم قد حضروا للتعزية، أو كتبوا عن رحيله، معربين عن صادق مواساتهم، فلنا أن نتصوّر وقع هذا الرحيل المفجع على أبناء عُمان الذين وفدوا من كل مكان لإلقاء نظرة الوداع على جثمانه، حتى أن أصوات البكاء تعالت لحظةَ الصلاة عليه. وكانت تعلو من البيوت أصوات البكاء والنحيب، سواء من المواطنين العُمانيين أو الوافدين، في صور عفوية صادقة تناقلت بعضَها وسائل التواصل الاجتماعي، من أبرزها تلك الصورة التي تتناقل حول جموع الوافدين إلى المقبرة، للدعاء له، وقراءة القرآن حتى وقت متأخر من الليل.
رحم الله السلطان قابوس، ومتّع العالم العربي بالسلام الذي سعى إليه دوما في حياته.