Skip to main content
كفّرتونا..
إسلام لطفي
صعود نجم التطرف هو نتاج طبيعي لوأد الحلم والإبداع(Getty)

في عام 2011، حينما دوّت في شارع الحبيب بورقيبة الصيحة الشهيرة: بن علي هرب، اعتبر الكثيرون أن مسماراً قد دُق في نعش كل التنظيمات التكفيرية؛ فها هو النضال من أجل الديمقراطية يؤتي أولى ثماره في تونس ويفرض الشعب إرادته، ثم كان المسمار الأكبر حينما أجبر الشعب المصري حسني مبارك على الرحيل، بعدما أثبتوا أن دفق الدماء عبر جراح المطالبين بالحرية والكرامة أشد فتكاً بالطغاة من آلاف الرصاصات الطائشة التي أطلقتها عليهم تنظيمات تكفيرية وأخرى انتهجت العنف كوسيلة للتغيير.

ولمدة أشهر قليلة شهدت المنطقة تراجعاً للخطاب التكفيري لصالح خطاب التعايش والتسامح، على الرغم من بروز التنظيمات السلفية ودخولها عالم السياسة بخشونة وصلف وحدوث بعض الاحتكاكات، وبالرغم من خروج كل المهمشين للمطالبة بحقوق مهضومة، وخروج بعض المجموعات لخلق أمر واقع جديد وفرضه، وبالتزامن مع غياب أمني متعمّد في كل بلدان التي شهدت ثورات ضد الأنظمة الفاسدة.

أصاب نجاح الشعوب في فرض إرادتها عدداً من الأنظمة في المنطقة بحالة من الهلع، وممّا زادهم هلعاً، تضاؤل فزاعة الإرهاب التي طالما ابتزوا شعوبهم بها وخدّروا بها العالم الخارجي، فبقاء تلك الأنظمة مرهون بشكل كبير بنجاحهم في إقناع الجميع أنهم ضروريون للحرب على الإرهاب، وبدونهم ستنهار المنطقة، عمدت بعض تلك الأنظمة إلى تمويل الجماعات السلفية وشجعتها على الإفصاح علانية عن رؤاها السوداوية للدنيا والدين، فيما عمد بعض آخر من تلك الأنظمة إلى تمويل وشراء وسائل الإعلام و ذمم إعلاميين لفضح رؤى، ووضع الناس في حالة من الحيرة والتيه حول الوضع القائم.

أحرز تحالف الرجعية أهدافاً متتالية في مرمى الشباب والثوار، وكل الحالمين بالحرية والتغيير؛ فرأينا تحوّل لهجة الخطاب في سورية من النضال إلى التخوين، ومن الثورة والقتال ضد الاستبداد، إلى الحرب ضد الذات، وفي مصر نجح وزير الدفاع ومعه القيادة العامة بدعم مباشر من أنظمة الثورة المضادة وبمساندة كريمة من فشل الإخوان في حكم مصر وتقرّبهم للخصم ومعاداتهم للحلفاء من الانقلاب على التجربة الديمقراطية لتعود مصر إلى حكم عسكري غشوم.

وفي ليبيا، ظهر حفتر وقواته من المرتزقة، وفي اليمن، أفرزت الثورة حكم نائب الرئيس المخلوع، فيما أصبح المخلوع نفسه قائداً للمعارضة اليمنية!

كل هذه الأوضاع المقلوبة والمشوّهة، صبّت بشكل أو بآخر لصالح قوى التطرف في العالم كله وليس الوطن العربي فقط، وكل اعتداء حدث على صندوق اقتراع صبّ في صالح صندوق الذخيرة تحت أيدي مزيج جديد تشكل من غاضبين ومتطرفين ومن أعداء للحرية ومن طلاب للحرية سُدّت أمامهم طرقها فقرروا أن يقتحموها عنوة.

نعم ما يحدث الآن من صعود لنجم التطرف والعنف، هو نتاج طبيعي لوأد الحلم ومحاربة الإبداع وعسكرة الدولة وترويج خطاب ديني انتهت صلاحيته منذ سبعة قرون، أو يزيد، هو نتاج لفقر وجهل ويأس، ولكن جزءاً منه أيضاً هو محاولة في الاتجاه الخطأ لاسترجاع إرادة قد سُلبت قهراً وسعياً لإثبات الذات ونسجاً للأسطورة عوضاً عن بذل الجهد في تغيير الواقع، ولن نستطيع أن نقنع طفلاً كبيراً عمره 16 أو 17 ربيعاً أن سفره من فرنسا للقتال في سورية مختلف تمام الاختلاف، عن سفر تشي جيفارا للقتال من بلد إلى بلد ليلقى حتفه، في أفريقيا وهو القادم من أميركا اللاتينية؛ وكيف لي أن أُدين وأن أشجب سفر مقاتلين من أنحاء العالم مدفوعين بحلم أيديولوجي بإقامة الخلافة والعالم حتى هذه اللحظة لم يُدن سفر الآلاف من شبيبة الاشتراكيين للقتال في أسبانبا في ثلاثينيات القرن العشرين بل على العكس يتم تمجيد سيرتهم حتى الآن باعتبارهم مقاتلين أممين حاربوا من أجل حلم ما انتهى بكابوس فاشي!!

وكيف لي أن أدعو لتحالف دولي لوقف عمليات الجز الوحشي لرقاب الأسرى والمعارضين، وفرنسا حتى الآن لم تعتذر عن الرقاب التي قطعتها، حرفياً لا مجازاً، في الثورة الجزائرية وحرب التحرير في ستينيات القرن العشرين، ولا أميركا اعتذرت عن جرائمها ووحشيتها في فيتنام ولا روسيا في الشيشان وأفغانستان؟!

وكيف يمكن أن يشرح مدرسو العلوم السياسية لطلابهم أن العالم انتفض لكون ميليشيات وعصابات إسلامية تسعى لإقامة دولة إسلامية لغتها العربية فوق أراضٍ عربية وهو العالم نفسه الذي بارك ووافق على قيام عصابات صهيونية تدين باليهودية باغتصاب أراضٍ عربية لتأسيس وطن لهم يتحدث العبرية!

كل ما سبق ليس تبريراً لمن انزلق في فخ تلك التنظيمات، بقدر ما هو محاولة لتسليط الضوء على ملابسات اندفاع الكثيرين منهم للفخ بكامل إرادتهم، المشكلة ليست اقتصادية فقط، فبعضهم يفيض بالمال، وليست مشكلة جهل فقط، وإلا كيف نفسر كل هذه الأعداد من الجامعيين وحملة درجتي الماجيستير والدكتوراة من الذاهبين إلى أحضان منظمات الموت.

من الشرعي الاعتقاد بأن العامل المشترك الأكبر بين الكثير من هؤلاء هو انسداد الأفق، وكفرهم بأمل تحقيق أحلامهم في دنيا أكثر إنسانية، والتراجع المشين لقيم العدل والرحمة والكرامة في مجتمعاتنا.

ولنتذكر جميعاً، أن الخوارج ظهروا وبين المسلمين باب مدينة العلم علي بن أبي طالب حي يرزق، ولم يكن المسلمون يشكون من فقر ولا ضعف عسكري، ولكن ضياع الحق واستئثار أصحاب المصالح ولي عنق النص ومصادرته لصالح من يملك القوة، كل هذا أفرز الخوارج وظل يفرزهم حتى يومنا هذا.