Skip to main content
في قتل المرتد وجواز السبي
حلمي الأسمر
من المؤلم أن يُحكم على شاعر بالإعدام بسبب قصيدة
أصدر مجلس الإفتاء في الأردن، قبل أيام، فتوى على جانب كبير من الأهمية، لم تأخذ حظها من الاهتمام الإعلامي، على الرغم من خطورتها ودلالتها العميقة. جاءت بناء على سؤال من الدكتور عبد الله الشيخ سعيد الكوردي، رئيس اتحاد علماء الدين الإسلامي في كردستان العراق، فكان مما جاء فيه: لا يخفى على سماحتكم ما قامت به الفئة الضالة المنحرفة (داعش) وما ارتكبته من جرائم باسم الإسلام بحق الإنسانية، ومن تلك الجرائم (سبي النساء)، حيث قام ببيع بنات ونساء المسيحيات والإيزيديات بثمن بخس، دراهم معدودة على مرأى ومسمع من الناس. وكان لهذا العمل الإجرامي الأثر السيئ في المجتمع الكوردستاني. ونظراً للمكانة الكبيرة التي تحظى بها سماحتكم في العالم الإسلامي، نرى من الضروري التفضل بإصدار (فتوى) تبين تجريم وتحريم السبي، من أجل أن يكون العالم الإسلامي على بصيرة لما حدث لهؤلاء الضحايا من جرائم باسم الإسلام.
كان لافتا أن من رد على السؤال مجلس الإفتاء الذي يرأسه الشيخ عبد الكريم خصاونة، وعضوية كل من أحد قضاة محكمة الاستئناف الشرعية يسميه قاضي القضاة: وهو حالياً القاضي الدكتور واصف البكري، وأحد أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الشريعة في الجامعات الأردنية الرسمية من المتخصصين في الفقه الإسلامي يسميه المفتي العام بالتناوب، وهو حالياً الدكتور محمد القضاة، ومفتي القوات المسلحة الأردنية، وهو الدكتور يحيى البطوش. ومفتي محافظة العاصمة، وهو الدكتور محمد الزعبي، وأحد العلماء المختصين في علوم الشريعة الفقهية من وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية يسميه الوزير، وهو الدكتور هايل عبد الحفيظ. إضافة إلى خمسة من العلماء المختصين في العلوم الشرعية، ومن المستحيل، والحالة هذه، أن يلتقي هؤلاء الأفاضل على ضلال، معاذ الله، فضلا عن أن المجلس ودائرة الإفتاء بالجملة بعلمائها المفتين، تتمتع باستقلال كامل إدارياً ومالياً عن كل دوائر الدولة الأردنية، وتصدر فتاواها بما يتفق مع الشرع الحنيف، ولا تحابي في هذا أحداً.
وبعد أن درس المجلس السؤال، قرّر ما يأتي: لم يأت الإسلام بالرق والسبي، بل كان الرق والسبي ظاهرة اجتماعية متفشية في الأمم الأولى لقرون متطاولة، فجاء الإسلام ليتعامل مع واقعٍ صعب ومؤلم، فشرع الأحكام والأعمال التي تقضي على هذه الظاهرة بالتدريج، شيئاً فشيئاً كما هي حكمة الإسلام في أكثر تشريعاته، لتكون حلولاً نافعة، وحاسمةً لأصل الفساد ومصدره.
ولهذا، جففت الشريعة الإسلامية منابع الرق، وحرّمت الاعتداء على الأحرار، وخصصت في
مصارف الزكاة ما يعين على إنجاز هذا المقصد العظيم، وجعلت من الأعمال الصالحة التي ينال بها المسلم رضوان الله تعالى، وتهوّن عليه الحساب يوم القيامة (فك رقبة)، قال تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ) البلد/11 - 13، ومكّن كل رقيق من تحرير نفسه بنفسه من خلال نظام "المكاتبة". وهكذا في تشريعات كثيرة جداً، يطول ذكرها، نجح الإسلام من خلالها في محاربة هذه الظاهرة، والتدرج في إلغائها بتشريعاتٍ حكيمة ودقيقة. وعليه، فإن ما تقوم به عصابة داعش الإرهابية، من سبي واسترقاق وبيع، غير جائز، ومناقض تماماً لمقاصد الشريعة وأحكامها، خاصة وقد اتفقت المجتمعات والشعوب، اليوم، على إلغاء هذه الظاهرة، والالتزام بمحاربة جميع أشكالها، فالإسلام لم يأت بالرق والسبي، بل جاء بالعتق والحرية، ولا تكون العبودية المطلقة إلا لله سبحانه وتعالى، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
وتفتح فتوى مجلس الإفتاء في الأردن الطريق للبت في متكآت فقهية كثيرة تستند عليها داعش وغيرها من تنظيمات، وترتكب بمقتضاها أفعالاً متوحشة، تنسبها للإسلام، وهذه دعوة للمرجعيات المجتمعية لتوجيه أسئلة مماثلة لمجلس الإفتاء، ليبين لنا موقف الإسلام مما ترتكبه داعش وأمثالها.
غير بعيد عن أجواء الإفتاء والأحكام الشرعية، ثمة قضية شغلت الناس كثيراً وقديماً، وتثور مجدداً بين حين وآخر، ويثور الحديث فيها أكثر، حين نسمع أن فلاناً من الناس حُكم عليه بالموت، بدعوى أنه "مرتد"، بسبب رأي قاله، أو قصيدة كتبها، وأشعر في أعماق نفسي أن ثمة شيئاً خاطئا في المشهد، وترفض فطرتي تلقائياً، وبشكل عفوي، أن تُسلب حياة إنسان بسبب قصيدة.
ثارت هذه المشاعر في نفسي، وأنا أقرأ الخبر المريع الذي تداوله القوم عن الحكم الصادر على الشاعر الفلسطيني المقيم في السعودية، أشرف فياض، والقاضي بإعدامه بتهمة "الردة" عن الإسلام، وترويج أفكار إلحادية. أمضيت وقتا طويلا في البحث عما قاله هذا الشاعر، وبناء عليه، حكم بهذا الحكم المخيف، فلم أجد شيئاً ذا بال، بل شذرات من ديوان شعر كان أصدره قبل سنوات، حيث جرى تأويل ما قال باعتباره كفراً بواحا. وشاهدت مقطعاً مصوراً لوالده، يتحدث فيه على الفضائية الفرنسية بالعربية، عن مكيدة ما كيدت لنجله، بعد مشادة بينه وبين أحد أصدقائه، وهما يشاهدان مباراة في مقهى.
الخبر منشور في مواقع إلكترونية كثيرة، وفيه تفاصيل كثيرة، ما يستوقفك فيه حقاً قتل من يتهم بالردة، وهو أمر مريع لو تم تطبيقه على كل من يتفوه أو يكتب بما يدل على هذا، وربما يمر علينا في اليوم الواحد كثيرون ممن يجري على ألسنتهم مثل هذا، ولو تعقبنا كل من "ثبت" عليه مثل هذا الأمر، لنصبنا للناس المشانق في الطرقات، خصوصاً مع شيوع حالة من الجهل في العقائد بين ناسٍ كثيرين.
من المؤلم أن يُحكم على شاعر بالإعدام بسبب قصيدة، وثمّة من يرتكب خيانات فظيعة بحق هذه الأمة، ويفرّط بحقها، ويهدر كرامتها، حتى لتبدو "جريمة!" هذا الشاعر، إن كان ثمة جريمة أصلاً، لا شيء في مقابل خيانة الأمانة، وخذلان الرعية، وموالاة أعدائها، وتسلميهم مقدرتها.
كتب المفكر المعروف محمد عابد الجابري، رحمه الله، في هذه القضية كثيرا، وبرؤية تستحق النظر، وليت ما كتبه يكون محط نقاش جدي من قضاة شرع وفقهاء يسارعون إلى الحكم بإعدام الناس، على النحو الذي نتحدث عنه. كتب الجابري أن جميع الآيات التي تتحدث عن الردة تحدد أن حكم المرتد، كما ورد في سياقها، هو لعنة الله، غضب الله، جهنم... وليس القتل، فضلا عن ذلك فباب التوبة مفتوح أمامه، أما الحديث النبوي "من بدل دينه فاقتلوه" فله فهم آخر، مستقى من قتال أبي بكر المرتدين، بوصفهم خارجين على الدولة، ذلك أن المرتدين الذين حاربهم أبو بكر بوصفه رئيسا للدولة لم يكونوا مجرد أشخاص غيّروا عقيدتهم، ولا شيء بعد ذلك، بل كانوا أناساً أعلنوا التمرد على الدولة، فامتنعوا عن دفع الزكاة، بدعوى أنها كانت التزاماً منهم للرسول عليه الصلاة والسلام وحده دون غيره، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، إذ نظموا أنفسهم للانقضاض عليها". فـ "المرتد" بهذا المعنى هو من خرج على الدولة، إسلامية كانت أو غير إسلامية، "محارباً" أو متآمرا أو جاسوساً للعدو، إلخ. وإذن، فحكم الفقه الإسلامي على "المرتد" بهذا المعنى ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد، بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة، وضد التواطؤ مع العدو أو التحول إلى لص أو عدو محارب.
من هنا، نفهم كيف يربط الفقهاء بين حكم "المحارب"، وهو من يخرج على الدولة والمجتمع ويشهر السلاح ويقطع الطريق، و"المرتد". ذلك أن الأخير، في الخطاب الفقهي الإسلامي، هو صنف من "المحاربين" (قطاع الطرق)، وحكمه يختلف من فقيه إلى آخر، حسب ما يكون المرتد محارباً بالفعل أو لا. فالمرتد المحارب يقتل باتفاق الفقهاء، أما قبل أن يحارب، فقد اختلفوا هل يُستتاب أولا، أم يقتل من دون استتابة. ويدل ذلك كله دلالة واضحة على أن فقهاء الإسلام كانوا يفكرون في "المرتد"، لا من زاوية أنه شخص يمارس حرية الاعتقاد، بل من زاوية أنه خان المجتمع، وخرج ضده نوعا من الخروج.
ليس رأي الجابري فريدا من نوعه، بل ثمة من تحدث من العلماء بهذا وأكثر، والأمر يحتاج مزيداً من البحث، لكيلا يكون حكم الإعدام سيفاً مسلطاً على أصحاب الرأي.