Skip to main content
صدر قديماً: "إعجاز القرآن" لـ مصطفى صادق الرافعي
نجم الدين خلف الله
(مسجد "سيدنا الحسين" في القاهرة، تصوير: إبراهيم ممدوح)

لمَّا استتبَّ، في مطلع القرن الماضي، تفوُّق الفكر الغربي بركيزتَيْه: العقلانية والعلمانية، وما حملتاه من قيم مجتمعيَّة كالحرية والليبرالية، هَرَع المحافظون العربُ إلى التراث، يقوِّضون به هذا التفوّق. وطبيعي أن يشكِّل القرآن، وما دار حوله من أدبيات التفسير والإعجاز، إحدى حصون الذاكرة التي لجأوا إليها.

في هذا السياق، أصدر مصطفى صادق الرافعي (1880-1937) كتاب "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، سنة 1928، لنقض آراء طه حسين في عمله "في الشعر الجاهلي". ويعدُّ هذا النص، الواقع في 350 صفحة، من أجزل النصوص النثرية، فقد زَخَر بأساليب الأقدمين في الحِجاج، واحتذى مذاهبهم في فنِّ الإنشاء، وخالطت صفحاتِه ألوانٌ من الفلسفة والأخلاق، يغذّيها اطلاع دقيق على تاريخ اللغة العربية وفنونها. فما هي رهانات استعادة "الإعجاز" في ذلك الزمن؟ علماً أنَّ كتابه هذا هو الجزء الثاني من "تاريخ الأدب العربي" الذي أًصدر الرافعي جزأه الأول سنة 1911.

هدفَ الحديث عن مظانِّ الإعجاز القرآني إلى غايات حضارية، توازي الدرس الأسلوبي الذي أعلن عنه الكاتب. وقد غلبت على مُؤلفه نبرة التمجيد، وطغى نهج التبرير، مع فتور للمنهج التاريخي الصارم، إذ امتشق صفحاتِهِ سلاحاً للدفاع عن الهوية العربية المتهاوية، والقرآنُ رمزها الأكبر.

وفيه ردَّ الكاتب المصري على أطروحات المتغرِّبين التي باتت تهدّد تعالي القرآن وإطلاقه، وتشكّك في اعتباره المرجعية الأساسية للمسلمين. فاعتمد أساليب الجدل والبرهنة في عرض المعلومات التاريخية واللغوية للتدليل على هذا التعالي.

ولذلك هَيمن الموقف الإيماني، على النظر العلمي، ولا عجبَ، فالقصد من تأليفه مَضاء المُجادلة ونصاعة البيان، لنقض دعاوى المجددين، وهَدم آراء الرافضين لكمال العربية، وهي آية القرآن وأداته. فتوسع في شرح مكامن الإعجاز القرآني، متكئاً تارةً على نظريات النقاد القدامى، متجاوزاً إياها تاراتٍ إلى أفنانٍ من الفلسفات الحديثة ومبادئ الأخلاق وعلوم الاجتماع، محققاً بذلك أهدافًا ثلاثةً:

أشاد أولاً بأسبقية المسلمين العلمية من خلال فصول الإعجاز العلمي، وفيها استدل الرافعي بالعديد من الآيات الواصفة للنظام الشمسي، وخلق الأجنَّة، وسائر الظواهر الطبيعية المذهلة، لإبراز التوافق التام بين ما جاء به القرآن وما توصّل إليه العلم الحديث في عصره، مستعيداً الحجّة القاطعة: لو لم يكن القرآن إلهيَّ المَصدر، لما تأتَّى له، وهو الذي أنزل من قرون، أن يصوِّر هذه الظواهر ويصفها بتلك الدقة. وكأنَّ هدف الرافعي الخفي التخفيفُ من غُلْواء العلوم الغربية وتبرير تخلف المسلمين عنها.

وأثبت ثانياً تعالي جمالية لغة الضاد من خلال مظاهر الإبداع البلاغي فيها، متكئاً على نظرية النظم التي استقرَّت عقيدةً منذ أعمال الرماني والجرجاني والسكاكي، فعقد فصولاً شيّقةً لبيان خصوصية "حروف القرآن وكلماته وجمله"، وروعة ما في آياته والسور من بديع الاختيارات اللسانية، كلها الأقدر على بلوغ الدرجة العليا من البيان الذي لا يضاهى. وأكد بذلك إلهية النسج القرآني وخلوده، واستواءه مرجعيةً مطلقة، غامزاً من قناة المُحْدِثين الداعين إلى الانقلاب على معايير الجمالية والأخلاق في المجتمع الإسلامي.

وأثبت أخيراً عقلانية النص القرآني حين ختم بفصل نفيس عن الإعجاز المنطقي وفيه أظهر تضمُّن القرآن لأمّهات الأقيسة العقلية والأدلة البرهانية، وأنها في الآيات جَرَت جميعاً على النسق الذي لا يعارض أدلةَ العُقول، ولا ينافي حقائقَ المَنطق. وفي ذلك تسخيفٌ للعقلانية المحدثة التي انساق إليها معاصروه في انبهارٍ.

عاد الرافعي إلى نظرية الإعجاز، بعد قرون من خفوتها، لِيضربَ ركائز المنظومة الغربية (العلمية، والاجتماعية والجمالية)، التي اجتاحت العالم الإسلامي آنذاك، وليحذِّر من مغبّة الانجرار إلى مبادئها تقويضاً لتعاليم القرآن، التي لا تعارض - في رأيه - الفطرة البشرية.

وسعى إلى إبطال مذاهب الاستشراق وتيارات المشككين في التراث الأدبي للعرب، التي لا هدف لها - حسبه - سوى نقض الحقائق الدينية، فكان حرصه على اللغة "مِن جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيءٌ قائم كالأساس والبناء، لا مَنفعَة بأحدهما إلا بقيامهما معاً".

وأما من جهة السياسة، فغايته تشييد "الجنسية العربية" وبناء هوية للأمة تعينها على النهوض، بعد تفكّك الخلافة العثمانية. فكان حديثُ الإعجاز - عند الرافعي - موقفَ رفضٍ لحداثة الغرب وردٍّ لمقولاتها، تذكيراً بأنَّ تراث الإسلام يتضمّن "علوم الأولين والآخرين"، وليس إلا العودة إليه. وأعجب ما في هذا الحديث استرجاع مفهوم النظم القرآني لتشييد حداثة إسلامية تساعد المسلمين على قيادة العالم، بعد ترميم أمجاد حضارتهم.