Skip to main content
سجّل أنا عربي من جيبوتي
وائل قنديل
مدهشٌ للغاية أن يأتي قرار الاجتماع الوزاري العربي رافضًا، بالإجماع، صفقة ترامب، بينما جاءت كلمات أربعة وزراء خارجية عرب، على الأقل، متحمّسة للصفقة أكثر من ترامب شخصيًا، ومستبسلة في ضرورة تبنّيها بإجماع عربي، أكثر من كوشنير، مسؤول تسويق الصفقة.
كلمات ممثلي البحرين وعُمان والإمارات والمغرب كانت أكثر فجاجةً في إظهار الولاء لرؤية ترامب أو خريطته أو صفقته، أو بالأحرى طبخته المسمومة التي يُراد للعرب تناولها ومضغها وهضمها، ثم توجيه الشكر لولي النعم الأميركي على كرمه الشديد، بل حملت هذه الكلمات اتهامًا مبطنًا لمن يعارض الصفقة بأنه يضيّع على الفلسطينيين والعرب فرصة لن تتكرر، حتى تخيلت أن ممثل أبو ظبي سوف يختم كلمته بالصياح: يسقط الخونة الذين يرفضون صفقة تهويد فلسطين.
كان لافتًا أن عرب المركز، الأكثر اشتعالًا بالطنين القومي، والجعجعة باسم العروبة هم الأكثر قربًا من الرؤية الصهيونية، كما عبرت عنها خطة ترامب، للقضية الفلسطينية، حتى وإن استهلوا كلماتهم جميعًا بالكلام الأجوف عن المواقف المبدئية المنحازة لقضية العرب المركزية والمحورية.. إلى آخر هذه المحفوظات المعلبة.
في المقابل، كانت جيبوتي، الواقعة بعيدًا هناك عند القرن الأفريقي، هي الأكثر قربًا من القضية، والأوضح والأنصع، ومعها بالدرجة ذاتها، السودان، في التعبير عن الحق الفلسطيني وصياغة المقاربة العربية، بحدّها الأنى، من موضوع الصراع العربي الصهيوني.
هؤلاء الذين نصنّفهم، كسلًا وجهلًا، عرب الأطراف، في مقابل عرب المركز، بينت كلماتهم أنهم الأقرب لفلسطين والأعرف بها، والأحرص على كرامتها وكرامة شعبها، على نحوٍ أكثر صراحةً ووضوحا في الانتماء، ربما أكثر من كلمة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية نفسه، وبما لا يقرن على الإطلاق بكلماتٍ مائيةٍ مائعةٍ مثل كلمة ممثل من يفترض أنها "الشقيقة الكبرى" السيد سامح شكري، صديق بنيامين نتنياهو والعائلة والضيف الذي يتناول عشاءه في منزل رئيس وزراء العدو، ويستمتع بمشاهدة مباريات كرة القدم معه.
لعلك لاحظت في المؤتمر الوزاري أن سردية رئيس السلطة الفلسطينية للمسألة كانت أقرب لوصلات من الأنين والعتاب للصفيق الأميركي، دونالد ترامب، وتعبيرًا عن خيبة أمل شخصية، حتى كاد يصل إلى مرحلة اعتبار ترامب سببًا وحيدًا في إفساد علاقته بالكيان الصهيوني.
تحدّث أبو مازن حديث عاشق مخلص لأوسلو ولتفاهمات أوسلو واستحقاقاتها التي جعلت منه منسقًا أمنيًا يحمي أمن إسرائيل ممن أسماهم "المتطرّفين"، والذين هم في نظر الكيان الصهيوني "الإرهابيون" أو المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال، بحسب المواثيق والأعراف الدولية المحترمة، ذات الصلة بتعريف الاحتلال والحق في مقاومة الاحتلال.
في كلمته، وضع محمود عباس استقالته من وظيفة "المنسّق الأمني" على الطاولة، لكنه بقي على موقفه ورؤيته المهينة لفكرة المقاومة وحق الشعب الفلسطيني في الحلم بكامل أرضه، وسخريته من مبدأ استخدام السلاح المقاوم بمواجهة عدوٍّ لا يتورع عن استخدام جميع الأسلحة الأكثر فتكًا في التهام الأراضي الفلسطينية وإبادة الشعب الفلسطيني.
بالتدقيق في جوهر كلمة عباس، الطافحة بحنينٍ إلى أيام الصهاينة الأقدم، من نوعية رابين وبيريز وأولمرت، وبالنظر إلى تشديد كلمات مندوبي الدول العربية ذات النفوذ اقتصاديا (الإمارات) وروحيًا (المغرب) التي ارتبطت برئاسة لجنة القدس، وتاريخيًا وجغرافيًا مصر التي تحتكر ملف المفاوضات ودور الوسيط الفندقي المريح بين الاحتلال الصهيوني والجانب الفلسطيني.. بالنظر إلى ذلك كله، كانت أكثر التقديرات تفاؤلًا تذهب إلى أن البيان الختامي سيأتي رماديًا ومائعًا ويتخذ موقفًا مطاطيًا من صفقة ترامب، فلا هو قبول صريح ولا رفض مطلق.
هنا، وكمواطن عربي يؤمن إيمانًا راسخًا بأن فلسطين، كل فلسطين، عربية، وأن صفقة ترامب إنْ مرّت ستكون أفدح من هزيمة، وأقسى من نكبة، أجدني مدينًا بالشكر لحديث مندوب الشقيقة العربية الحقيقية الرائعة الصادقة في موقفها من فلسطين، جيبوتي، وكذا كلام مندوب السودان العربي الأصيل، وهما يعلنان موقفًا صريحًا في رفض الصفقة الحرام، والانحياز الكامل للشعب الفلسطيني ونضاله المشروع لاسترداد حقوقه وتحرير أراضيه.
حديث ممثل جيبوتي التي لم تستقل وتتحرر من الاستعمار الفرنسي، إلا في1977 ، السنة التي دشن فيها أنور السادات مسيرة الانبطاح والتطبيع مع العدو الصهيوني، جاء أكثر تعبيرًا عن الموقف القومي الصحيح من كلمة ممثل اليمن، أصل العرب، والذي سقط في أسر الهيمنة السعودية والإماراتية، وصارت سياسته الخارجية تدار من أبو ظبي والرياض.  
وأستطيع آن أزعم إنه لولا هذين الموقفين الناصعين، وقريبًا منهما وبدرجة أقل مواقف أخرى، لخرج البيان الختامي لوزراء الخارجية العرب مصفقًا ومهللًا لترامب، ومعبّرًا بفصاحةٍ مشينةٍ عن صفاقةٍ عربيةٍ في التعاطي مع صفقة إحراق خارقة فلسطين