Skip to main content
رسالة المنتفضين في القدس
بدر الإبراهيم
شبان فلسطينيون يرجمون جيش الاحتلال شمال القدس ( 19نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

تطل أخبار القدس، والعمليات الفدائية التي تحصل على أرضها، من بين ركام الحروب الأهلية العربية، وخراب الثورات المضادة، لتذكّرنا بالقضية التي كانت تسمى مركزية، في زمن تبعثر الأولويات والقضايا. مجموعة من الفلسطينيين المتمردين يستخدمون أسلحة بدائية، ويثيرون الذعر بين المستوطنين، وداخل مؤسسات الاحتلال الأمنية والعسكرية، بقيامهم بعمليات مفاجئة ومبتكرة، في مواجهة الصلف الصهيوني. المثير فيها أن من ينفذها، غالباً، مقاومون يعملون منفردين، وليس ضمن حالة منظمة، ما يعطي دلالات مهمة، على مستوى ما آلت إليه الأوضاع في الأراضي المحتلة، والخيارات الفلسطينية والعربية إزاء الاحتلال الصهيوني.

أهم ما تعبر عنه هذه العمليات في القدس هو الفشل الذريع لمسار أوسلو، بل يمكن القول إن هذه العمليات رد بليغ في دلالته الرمزية، على ما يسمى عملية السلام. لم ينتج مسار أوسلو حلولاً مرضية للفلسطينيين في الضفة الغربية، وأكثر من ذلك، واصل هذا المسار خنقهم عبر التوسع في بناء المستوطنات، وتحويل مدن الضفة إلى كانتونات معزولة، تخترقها المستوطنات، وتذيب أي أمل بقيام دولة حقيقية على أرضها. لم يتوقف الاستيطان يوماً في الضفة، كما لم تتوقف مصادرة الأراضي، ومحاولات تهجير الفلسطينيين، في محاولة إيجاد وقائع على الأرض، لا يغير منها الحديث على طاولة المفاوضات، وإنما تكون ورقة لانتزاع مزيد من التنازلات من الطرف الفلسطيني، فكل واقع جديد على الأرض يحل مكان القديم على أجندة المفاوضات، فينزل مستوى المطالب الفلسطينية إلى أقل من الحد الأدنى.

أما السلطة الفلسطينية، فلم تكتفِ بسوء إدارة ملف المفاوضات، أو تقديم التنازلات للعدو الصهيوني، فقد ساهمت، أيضاً، في ضمان الأمن الإسرائيلي، عبر جهاز أمني ضخم يتبع لها في الضفة الغربية، مهمته خنق الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، ورصد أي عمليات قد تهدد الأمن الإسرائيلي. يذكر ينجامين بارت، رئيس قسم الشرق الأوسط في صحيفة لوموند الفرنسية، في كتابه "حلم رام الله .. رحلة في قلب السراب الفلسطيني"، أن عدداً كبيراً من أفراد الشرطة الفلسطينية تدربوا على يد الجنرالين الأميركيين، كيث دايتون ومايكل مولر، في معسكر يقع في إحدى ضواحي عمّان، وأن قبول الأفراد يتم عبر ثلاث مراحل: فرز أولي تجريه وكالة المخابرات المركزية الأميركية، ثم تصفية يجريها جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، "الشين بيت"، وأخيراً امتحان يجريه الأمن الأردني. الإعداد والتدريب والتجهيز كان يتم بإشراف إسرائيلي مباشر، والنتيجة المتوقعة، بالتأكيد، لن تكون إلا في عمل هذا الجهاز لخدمة المصالح الإسرائيلية، وإعادة ترتيب الأولويات الأمنية، لينسى أفراد جهاز الشرطة الفلسطينية أن وجود الاحتلال هو سبب انعدام الأمن في أرضهم.من رحم هذا الواقع السيء، ولدت العمليات الأخيرة في القدس، فهي أولاً تسجل اعتراضها على مسار أوسلو الذي لم يوصل إلى نتيجة، وتستكمل تجربة المقاومة في غزة عبر إمكانيات محدودة، لكنها مزعجة للاحتلال ومؤسساته. وثانياً، تتهرب من سطوة جهاز أمن السلطة، الذي يلاحق فصائل المقاومة المنظمة، ويسعى إلى تفكيك بناها التحتية، ومصادرة عتادها، والحد من قدرتها على تجنيد المقاومين، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. التحايل على هذه الرقابة الأمنية حصل عبر هجمات فردية، استُخدمت فيها أسلحة بدائية، مثل السكاكين، أو حتى السيارات، فالمسألة لم تتطلب تدريباً عالي المستوى، كما أن لدى المقدسيين قدرة على الوصول إلى التجمعات الإسرائيلية، لامتلاكهم بطاقة الهوية الإسرائيلية.

عندما تكون الهجمات منفردة، وغير منظمة، وبأسلحة بدائية، فإن الخسائر التي يمكن أن تلحقها بالاحتلال أقل، لكن هذا لا ينفي قدرتها على إثارة الذعر في صفوف الإسرائيليين، فلا المستوطنون يمكنهم الثقة بقدرة الأجهزة الأمنية الصهيونية على حمايتهم من أفرادٍ يمكن، في أي لحظة، أن يستخدموا وسائل بدائية، أو غير متوقعة، في تنفيذ عمليات فدائية، ولا المؤسسة الأمنية نفسها قادرة على توقع عمليات كهذه، أو رصدها عبر العمل المخابراتي، ومحاولة اختراق خلايا تابعة لحركات المقاومة. المهم في هذه الهجمات دلالتها الرمزية، المتمثلة في ظهور موجة جديدة من الاعتراض على سياسات الاحتلال في القدس والضفة الغربية، وعلى مجمل الأوضاع الناتجة عن اتفاقية أوسلو، واستمرار التعنت الإسرائيلي، وتزايد الاستيطان، وإيصال رسالةٍ مفادها بأن الفرد الفلسطيني المقهور بسلطة الاحتلال، لا يمكنه أن يسلم لها، أو يقبل بممارسات تذله، أو تنتهك مقدساته، وهو لن يتوانى عن التعبير عن سخطه وغضبه واعتراضه، بكل وسيلةٍ ممكنة، ليكون جزءاً من سيرة نضالية طويلة، لا تسلم للاحتلال بشرعيته، وتُبقي القضية حية، تتناقلها الأجيال.

الكرة، اليوم، في ملعب القوى السياسية الفلسطينية، وتحديداً تلك التي انخرطت في عملية التسوية، ومن ورائها النظام العربي الرسمي الذي دعم هذا الخيار في سبيل التخلي عن مسؤولياته التاريخية، تجاه قضية العرب المركزية. أثبتت المقاومة بكل وسائلها، وفصائلها، قدرتها على تحقيق منجزات، على الرغم من إمكاناتها المحدودة، ومحاصرتها، والتضييق عليها، لتثبت أن الهزيمة ليست قدرنا، وأن التنازل ليس خيارنا الاستراتيجي، ولتقدم للمنخرطين في ركب التسوية نموذجاً، يراجعون على أساسه مواقفهم وخياراتهم الاستراتيجية.