Skip to main content
رحيق جهنم وشمس العرب
مصعب قاسم عزاوي
نشر رئيس قسم فيزياء المحيطات القطبية في جامعة كامبردج في بريطانيا، البروفسور بيتر واد هامز، أخيراً، بحثاً علمياً محكّماً تكمن خلاصته المهولة في إمكانية ذوبان كل الجليد في منطقة القطب الشمالي، وتراجعها من مساحة 12.7 مليون كيلو متر مربع إلى "أقل من مليون متر مربع مع نهاية شهر سبتمبر/ أيلول من العام الحالي 2016". ويأتي ذلك البحث الخطير بما ينذر به، بالتوازي مع اعتبار العلماء العام الحالي 2016 الأكثر حرارة في تاريخ الكرة الأرضية، منذ بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى اعتبار شهر مايو/ أيار المنصرم الأكثر حرارة في تاريخ البشرية أيضاً.
كما يشير العلماء إلى الارتفاع المطرد لدرجة حرارة المحيطات في الأشهر الثلاثة الأخيرة، بما يعادل 0.17 درجة مئوية، وارتفاع درجة حرارة قشرة الأرض بنسبة تقارب 0.18 درجة مئوية، ووصول معدل ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، حسب مركز أبحاث تغير المناخ في وكالة ناسا الأميركية إلى 400 جزء بالمليون من هواء الغلاف الجوي، وهي أعلى نسبة في تاريخ البشرية، بزيادة بنسبة 24% عمّا كان المعدّل عليه قبل الثورة الصناعية.
وقد يجادل القارئ العربي بمدى اقتران ما يجري في القطب الشمالي، وفي الغلاف الجوي بمعاناته اليومية في تأمين قوت عائلته، واتقاء غيلان الفساد، ومنظومات الدول الأمنية المشرعة على امتداد الجغرافيا العربية، وهو منطقٌ صحيحٌ وواقعيٌّ وحق في آنٍ معاً، لكنه مقصر ومستقيل كمنطق نعامةٍ دفنت رأسها في الرمل، فللأسف ما تمّ اختراعه في سياق تعملق نتاج الثورة الصناعية من حدودٍ للدول القومية، لا يستطيع أن يلغي حقيقة أن البشرية جمعاء تتشارك مياه المحيطات نفسها التي تحكمها فيزياء الأواني المستطرقة، وليس القانون الدولي لترسيم المياه الدولية. والأهم من ذلك كله أنّ البشر جميعاً يتنفسون الهواء نفسه الذي لا يعرف حدوداً، أو دولاً، أو تجمعات اقتصادية أو غيرها.
والحقيقة الواقعة أنّ المنطقة العربية سوف تكون من أول المناطق المتأثرة بجحيم التغير المناخي، حيث سوف تغمر مياه البحر التي يرتفع منسوبها بشكل مضطرد جرّاء ذوبان جبال الجليد في القطب الشمالي إلى مستوىً قد يصل إلى ستة أمتار في نهاية القرن الحالي عمّا هي عليه الآن معظم المدن الساحلية العربية، وأولها سوف تكون مدن أبو ظبي و دبي والدوحة، وأجزاء شاسعة من محافظة البصرة، ودلتا النيل الذي يقطنه أكثر من 12 مليون مصري، ويعتاش من قمحه شعب مصر المظلوم كله، بشكلٍ لا يختلف عن راهنية ذهول سكان الجزر الستة من جزر سولومون في المحيط الهادي التي غمرتها المياه كلياً قبل أيام قليلة فقط، جرّاء مأساة اعتبار الغلاف الجوي مكبّاً لامتناهي السعة، يستطيع استيعاب مئات آلاف الأطنان من
ثاني أكسيد الكربون. هذا عدا عن حقيقة إمكانية تحوّل أراضٍ شاسعة من أراضي شبه الجزيرة العربية، خلال عقدين أو ثلاثة، إلى مناطق غير قابلة للحياة فيها من الناحية الصحية، نظراً إلى ارتفاع الحرارة والرطوبة بشكلٍ مزدوج بالتوازي، يجعل البدن غير قادر على تبريد نفسه بالتعرّق، وتوسيع الدوران المحيطي، حتى لدى الشباب الأصحّاء، ما سوف يجعل فريضة الحج مستحيلةً بالحد الأدنى، ويحوّل نظرياً شبه جزيرة العرب إلى بقعةٍ من جهنم في الحياة الدنيا.
وعلى المقلب الآخر من تلك المأساة الأخيرة، تكمن حقيقة احتمال أن يصبح طوفان نوح حقيقةً يوميةً سرمدية في مختلف بقاع الأرض، جرّاء التغير المناخي، وارتفاع درجة قشرة الأرض والمحيطات. حيث يتوقع العلماء أن تصبح الفيضانات الخاطفة حدثاً متكرّر الحدوث، جرّاء ارتفاع مستوى التبخّر من مياه المحيطات إلى درجة وصول الغمام إلى مستوى الإشباع المطلق الذي لا ينتظر هواءً بارداً، لكي يتكاثف ويسقط مطراً، وإنمّا فقط الوصول إلى تلك الدرجة من الإشباع المطلق، لكي يتساقط كل ما تبخّر من مياه المحيطات في سيلٍ عرمرم، يأكل الأخضر واليابس، كما شهدنا في الصومال، واليمن، و فرنسا، وألمانيا، والهند، وبنغلادش، وتكساس، وكاليفورنيا أخيراً.
ويجادل مفكرون بأن اكتشاف النفط أساساً كان نقمة النقم على العرب التي لم تجلب للعرب سوى "سايكس بيكو"، واستعماراً مقيماً لم يرحل حتى بعد استقلال الدول العربية الشكلي، وجعل الدول العربية بيضة القبان في لعبة الأمم قبل الحرب الباردة وبعدها. والأهم من ذلك كله استزراع الكيان الصهيوني، كعصا السادة المستعمرين الغليظة التي تهشّ بها على الأغنام العربية الشاردة، إن ضلت طريقها، كما حدث في نكسة حزيران وغيرها؛ بالتوازي مع إيجاد أنماطٍ اجتماعية واقتصادية واستهلاكية شوهاء في دولٍ عربية عديدة صار من المخجل والمحرج للعربي، أحياناً، فيها أن يتحدّث فيها بلسان الضاد الذي أصبح ثانوياً في لج طوفان الأعاجم المفقرين الذين ينتظرون بعض فتات الريع النفطي فيها.
خلاصة القول أنّ البشر جميعهم يسيرون إلى حتفهم، آخذين معهم كل الزرع والضرع في هذه الأرضين، كما لو أنّهم صمٌ بكمٌ عميٌ لا يعقلون، ولا يستبصرون. وأنّ العرب الذين حباهم المولى بما اعتُقد أنّه نعمة الزيت الأسود، كما كان يسميه الصينيون القدماء، فتبين أنّه زيت لمزاليج أبواب جهنم التي سوف تجعل حياة أطفالنا وأحفادنا هلعاً لا ينقطع من كارثةٍ بيئيةٍ، تنتظر أوان حصولها، إلى هلع إيجاد مكانٍ آخر للحياة فيه برهة إلى حين حلول الكارثة فيه، والارتحال عنه من جديد في جلجلةٍ من الهول الذي لا ينقطع.
ويحقّ للمفكر الحصيف النظر إلى البشرية كما لو أنّها مريضٌ أبله، أنهك كبده بانغماسه الحيواني في شرب الخمر، إلى درجة تحوّل كبده إلى كتلةٍ من الشحم المهلهل. وحينما أتى عليه الطبيب يخبره أنّ استمراره في استهلاك الكحول سوف يؤدي إلى تحوّل كبده إلى كتلةٍ مِنَ الشمع الميت التي لا حياة له معه، فأتى جواب ذلك الأحمق بأن: اليومَ خمر وغداً أمر.
وفيما يخصّنا، نحن العرب، فإنْ كان النفط نقمةً لم تأت علينا سوى بسلسلة متعاقبة من النقمات المرتبطة بتلك الأولى عضوياً، ولأنّ جزءاً كبيراً من صنابير استجلاب جهنم، وتوطينها في هذا الكوكب الذي أوصانا المولى بحفظه، يقع في أرض الأعراب، ولأنّ المولى العزيز القدير أنعم على ساكني تلك الأرض بنعمة الشمس المشرئبة دائماً في سمائها، فهل يكون من المنطقي التفكّر بضرورة تحرّك كل أبناء الشعب العربي لإغلاق أنابيب رحيق جهنم المعسول، وإبقائها في باطن الأرض. والاستناد إلى ما راكمه العرب من فوائض الريع النفطي، خلال العقود الماضية، باستغلالها فعلياً في تحويل المنطقة العربية إلى أرضٍ للطاقة الشمسية المتجدّدة، بدل قعود تلك الثروات في خزائن غيلان العم سام ومن لفَّ لفهم، بانتظار تآكلها جرّاء التضخم، أو فناء من يملكون حق التصرف بها، مع شعوبهم المقهورة بإطباق جهنم على أرضهم وأرواحهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم، بعد أن صارت قاب قوسين أو أدنى.