Skip to main content
دعوا "نداء تونس" يحكم
سمير حمدي
يوسف الشاهد من "نداء تونس" لرئاسة الحكومة (3 أغسطس/2016/أ.ف.ب)
منذ إعلان فوز حزب نداء تونس في انتخابات سنة 2014، ظلت المعضلة الأساسية في تونس تتعلق أولاً بتشكيل الحكومة، والمعروف أن رئيس الحكومة المتخلي، الحبيب الصيد، ظل يكافح من أجل إيجاد صيغة حكومة، يمكنها الاستمرار. وفي النهاية، أفضت التطورات إلى سحب الثقة منه، وتحديداً من القوى التي جاءت به إلى السلطة، ونعني بها أساساً حزب نداء تونس.
وبغض النظر عن مناورة الرئيس الباجي قائد السبسي، وحديثه عن حكومة وحدة وطنية، فقد بدا واضحاً أن المطلوب أساساً هو تغيير رأس الحكومة بشخصية من "نداء تونس"، وهو ما تم فعلياً بتكليف يوسف الشاهد بهذه المهمة، وهو القيادي في الحزب.
ويمكن تقدير هذه الخطوة، في حد ذاتها، لجملة من الاعتبارات، ربما أهمها حل مشكلة الانفصال بين قيادة حزب نداء تونس ورئاسة الحكومة، فمن المعروف، في الأنظمة البرلمانية، أن رئيس الحزب الفائز يتولى تشكيل الحكومة وإدارة الشأن العام، متحملا مسؤولية خياراته نجاحاً أو فشلاً، وما سينجرّ عنها من ردود أفعال على الممارسة الانتخابية لاحقاً، غير أن ما جرى، في المرحلة السابقة، أن رئيس "نداء تونس" فاز بمنصب رئاسة الجمهورية، وفي الوقت نفسه، ظل يرغب في إدارة الحكومة، عبر خياراتٍ محدّدة، وهو ما أفضى إلى حالة من الفصام بين رئيس حكومةٍ، من المفترض أنه يتمتع بالسلطة الحقيقية من الناحية الدستورية ورئيس الحزب الذي يجمع بين يديه مقاليد السلطة الفعلية من خلال حزبه.
وإذا كان "نداء تونس" قد ظل ممسكاً بالقسم الأكبر من الوزارات، وكان الطرف الذي يتولى تحديد أهم التعيينات في مجال الإدارة، وخصوصاً سلكي المعتمدين والولاة، فكان من الطبيعي أن تنتهي العلاقة غير المنسجمة بين رئيس الحكومة المتخلي الحبيب الصيد ورئيس الجمهورية الى نوع من الفتور، وصولا الى الإقالة.

اليوم، وقد اختار رئيس الجمهورية منح فرصة رئاسة الحكومة لقيادي من حزبه، فإن المطلوب دفع هذا الخيار الى مداه الأقصى، أي أن يحكم "نداء تونس" بكل ثقله، وبصورة معلنة، من دون ستار، أو واجهةٍ يغطي بها فشله، أو سوء إدارته الشأن العام. وهو، في مسؤوليته هذه، سيكون شريكاً مع من ارتضاه حليفاً له في الحكم، أو حتى إذا اختار أن يكون الجزء الأكبر من التشكيل الوزاري هو من التكنوقراط وأصحاب الخبرات، ففي النهاية سيتحمل هو مسؤولية خياراته كاملةً غير منقوصة، وسيجد الشعب الفرصة لمحاسبة هذه التوجهات، والتعبير عن رضاه، أو سخطه في المحطات السياسية المقبلة.
والأكيد أن فكرة حكومة وحدة وطنية في تونس أصبحت اليوم أعقد من أن تتحقق في ظل التجاذبات الحزبية والاختلافات في التقدير، غير أنه من الموضوعي القول إن الأجدى أن يتحمل "نداء تونس" مسؤوليته، وهو الذي جاء إلى الحكم في ظل شعاراتٍ كبرى، ووعود براقة، وحديث عن كفاءات قادرة على تطوير الوضع والنهوض بالبلاد. وفي الوقت نفسه، لا ينفي هذا الموقف مسؤولية قوى المعارضة التونسية، البرلمانية منها والشعبية، عن تطوير المشهد السياسي ومتابعة الحكومة، لكن الأهم هو تطوير أدائها على الأرض، والخروج من الطور الاحتجاجي النظري إلى مرحلة التحول إلى قوة اقتراح فعلية. صحيح أن تونس لم تبلغ من النضج السياسي والديمقراطي حد مطالبة المعارضة بتشكيل حكومة ظلٍّ على الطريقة البريطانية، لكن هذا لا يعفيها من مسؤولية بذل الجهد، لتصبح قوة فاعلة وقادرة على تولي السلطة يوماً ما، إذا فازت في الانتخابات المقبلة.
وتظل المشكلة المركزية في العمل السياسي في تونس ما بعد الثورة تكمن في حالة التشتت التنظيمي والعجز الحزبي، بسبب الصراعات الجانبية بين الأحزاب المختلفة، وبعضها لازال يرابط في معسكراته الإيديولوجية الأولى، لم يخرج عنها قيد أنملة إلى الحد الذي يجعله، في أحيان كثيرة، مجرد ظاهرة صوتية. والبعض الآخر يعاني من غياب الخيال السياسي والقدرة على تقديم الحلول والتواصل مع المواطنين، من أجل بناء قوة فعلية تسمح بقلب موازين القوى لصالحها مستقبلا. وإجمالاً، سيكون أداء رئيس الحكومة المكلف تحت الأضواء، بالنظر إلى اللغط الذي أُثير حوله، وافتقاده تجربةً قوية في العمل السياسي، أو التعامل مع تطورات الوضع العام في البلاد، بما يعني أن إمكانية بقائه مجرد ظل باهت لرئيس الجمهورية، ومنفذ لسياساته أمر وارد، وهو المأخذ نفسه الذي كان يُنتقد به رئيس الحكومة المتخلي، الحبيب الصيد، وإن كان للأخير بعض العذر، من حيث أنه جاء من خارج رباعي الحكم، وتعرّضه لحالة من التعطيل، حسبما أشار، في كلمته أمام مجلس نواب الشعب، في أثناء سحب الثقة من حكومته المنصرفة. ويبقى المشكل الأخير متعلقاً بطبيعة التشكيلة الوزارية المقبلة، فبعض الوزراء المنتمين ل "نداء تونس"، أو حزب أفاق تونس، في الحكومة المتخلية، كانت واضحةً حالة الفشل الكبير التي صاحبت توليهم الوزارة، بما يعني أن عودتهم إلى مناصبهم لا تعني سوى مراكمة مزيد من الفشل، والخضوع لمنطق المحاصصة، بعيداً عن تحقيق نجاح فعلي في إدارة المرحلة.
وفي النهاية، تظل كل هذه التجارب، وعلى الرغم مما تنبئ به من حالة هشاشةٍ سياسيةٍ وغياب الاستمرارية والاستقرار في العمل الحكومي، تظل علامةً على حيوية سياسية وحزبية في البلاد، وتكشف عن مدى التحول السياسي الذي عرفته تونس، إثر ثورتها والخطوات الفعلية التي قطعتها نحو مزيد من ترسيخ العملية الديمقراطية فيها.