Skip to main content
حروب العرب المتناسلة ووهم الانتصار
سعد كيوان
حروب عربية تتناسل منذ سبعين عاما، على الصعيد الإقليمي، وبين الدول العربية، وفي داخل كل دولة. تبدأ مع الاحتلال الإسرائيلي، ولا تنتهي مع احتلال طغمات عسكرية السلطة، وقمع حريات الناس وعقولهم، واستباحة لقمة عيشهم، مرورا بالثورات الشعبية المجهضة التي يتم تحويلها إلى حروب أهلية أو إلى إرهاب، أو الاثنين معا. فكانت "النكبة" الأولى في حرب عام 1948 التي انتهت باحتلال إسرائيل أراض فلسطينية وبدء النزوح الفلسطيني، تلتها "نكسة" حرب 1967 التي انتهت باحتلال أراض عربية في سيناء والجولان الذي لا يزال محتلا منذ أكثر من خمسين عاما، في ظل حكم عائلة "البعث الأسدي". فيما حكمت عائلة "البعث الصدامي" العراق نحو ثلاثة عقود، وشنت الحروب مع إيران في 1980 دامت ثمانية أعوام، ثم اجتاحت الكويت في صيف 1990، وانتظرت قدوم "الوحش" الأميركي عام 2003 لاقتلاعها. فهل هذا ما ينتظره بشار؟ وعام 1973 عاود العرب الكرة مع إسرائيل، لكنهم فشلوا في استعادة على الأقل أراضيهم المغتصبة! في سبتمبر/ أيلول 1970 يبدأ أفول الناصرية بوفاة جمال عبد الناصر، وبعد فشل محاولة ضرب الثورة الفلسطينية في الأردن.
وفي عام 1975 تحول لبنان ساحة صراع وقتال عربي - إسرائيلي، وعربي - عربي، بأدوات لبنانية، وصندوق بريد عربي - غربي. وتقدم حافظ الأسد ليلعب دور الشرطي، وساعي البريد، ومتلقي الرسائل والمكافآت في الوقت عينه! واستمرت الحرب اللبنانية خمسة عشر عاما، انفلتت في أثنائها المليشيات والطوائف والمذاهب وعصابات الإجرام من عقالها، وكانت الحصيلة نحو مئتي ألف قتيل. ولكي تكتمل المأساة – التحدي، تشن إسرائيل حربا على لبنان عام 1982، وتجتاج جنوبه وصولا إلى بيروت. وتحاصرها نحو ثلاثة أشهر أمام أعين العرب الغافلين، وتطرد الجيش السوري منها، وتدمر أسطوله الجوي فوق البقاع.
وفي الثمانينيات، تتناسل حروب الإخوة - الأعداء بين نظامي الحزب الواحد الحاكم في سورية والعراق، اتهامات بالخيانة وإغلاق الحدود المشتركة ونشر الجيوش على الجانبين، ثم انحياز
"بعث" حافظ "الوحدوي العربي" إلى جانب إيران ضد "بعث" صدام "الوحدوي العربي".. ومع نهاية القرن الماضي، استتب الأمر للأنظمة الديكتاتورية المستبدة من مصر حسني مبارك إلى عراق صدام حسين وسورية حافظ الأسد، وإلى ليبيا معمر القذافي وحروبه العبثية في تشاد وإريتريا وإثيوبيا والصومال، انتهاء بتنصيب نفسه "ملك ملوك أفريقيا".
وبدأ القرن الواحد والعشرون بعبور دبابات جورج بوش الابن في 20 مارس/ آذار 2003 جسر بغداد، فيما كان وزير إعلام صدام حسين، محمد سعيد الصحاف، يخطب متوعدا "العلوج" بهزيمة نكراء. ومنذ ذلك التاريخ، وعلى مدى خمسة عشر عاما، تتناسل الحروب الكبيرة والصغيرة في العراق، ويأخذ الصراع على السلطة أشكالا مختلفة، من صراع مذهبي (سني - شيعي) إلى صراع عربي في مواجة النفوذ الإيراني المتنامي والمتمادي، ثم إلى مواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ويتحول معها "البعث" من نظام مستبد ودموي إلى ناشط في العمل السري ضد وصاية ملالي طهران على الحكم في بغداد. وينتقل العراق من الوصاية الأميركية إلى الوصاية الإيرانية، ويشتد الصراع بين أجنحة حزب الدعوة الحاكم نفسه، الإيراني المنشأ والتوجه.
وفي فبراير/ شباط 2005 يفجر اغتيال رفيق الحريري انتقاضة شعبية غير مسبوقة في تاريخ لبنان، تجبر بشار الأسد على سحب الجيش السوري من لبنان بعد نحو ثلاثين سنة من الوصاية على مقدرات البلاد، واستتباع الطبقة السياسية فيه، ونهب خيراته واقتصاده. ولكن ذلك لم يؤد إلى عودة لبنان إلى عافيته، وإنما استتبعته أزمات وحروب صغيرة، أثبتت أن اللبنانيين غير قادرين على حكم أنفسهم بمفردهم، فيما كان حزب الله، الذراع العسكرية الإيرانية في لبنان ولاحقا في سورية، قد اشتد عوده وبات الحاكم المرئي بفعل ترسانة السلاح التي في حوزته. وسبقت انتقاضة 14 آذار اللبنانية ثورات الربيع العربي التي انفجرت بعد خمس سنوات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وأطاحت حكام تونس ومصر وليبيا، والتي شكلت بريق أمل لانعتاق الشعوب العربية من أنظمة القمع والاستبداد. لكن "ربيع" اليمن وليبيا وسورية تم إجهاضه، وتحول إلى حروب واقتتال دموي مزق النسيج الداخلي لهذه الدول، وإلى لعبة في أيدي الكبار، فهذه سورية تنزف منذ سبع سنوات بعد أن مورست خلالها كل أنواع القتل والبطش والإجرام والإبادة، واستعملت فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة، بما فيها المحرم دوليا، ناهيك عن نزوح نحو نصف عدد السكان إلى دول الجوار، وتشردهم في أوروبا. وذلك كله من أجل أن يبقى بشار قابعا على كرسي الحكم، تستعمله روسيا وإيران مطية لبسط نفوذهما في المشرق، وعلى ضفاف المتوسط. وفي المقابل، تجد الولايات المتحدة في استعمال السلاح الكيميائي سببا لإحراج موسكو وطهران عبر "زكزكة" الأسد بتوجيه ضربة موضعية لبعض المواقع العسكرية، بعد تهويل بعظائم الأمور دام نحو أسبوعين.
وكما في الأيام الغابرة، يرى بشار الضربة بمثابة "انتصار" له، تماما كما كانت تتحول 
الحروب - الهزائم مع إسرائيل إلى انتصارات، فنراه في صباح اليوم التالي يحمل حقيبته مثل المسؤولين الغربيين، ويتوجه إلى مكتبه في القصر الجمهوري. وهو أساسا يستبق الهزيمة بإعلان النصر، ويعلن النصر بعدها أيضا. النصر عند هؤلاء الحكام يدخل في صلب معادلة السلطة والعلاقة مع العامة من الجمهور، إذ لا يجب أن يشعر السوريون بأن النظام الذي يقتلهم مهزوم أو غير منتصر، وإلا فقد الأخير القدرة على القتل وفرض السيطرة والرهبة. يعدّ لأهزوجة النصر قبل وقوع الحرب، فهي أهم من الحرب نفسها، وأهم من نتائجها، وهذه معادلة ليست جديدة. فعقب نكسة 1967، علمت الأنظمة الشعوب العربية أن النصر يتم أو يعلن قبل وقوع الحرب نفسها، ليصبح بعدها تحصيل حاصل. وما همّ إذا كان الخراب يلفنا، والضحايا من حولنا بعشرات الآلاف، وسيادتنا مستباحة، وأن نكون مستتبعين واقتصادنا على الأرض.