تحوّلت الخرطوم إلى وسيط مع مبادرة رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، للتفاوض من
25 مايو/ أيار إلى 17 يونيو/ حزيران. وبعد الفشل في الوصول إلى اتفاق ثلاثي ملزم، أصبح السودان شريكاً لمصر في مواقف كثيرة، خصوصاً بعد أن تأكد تعنت إثيوبيا المتكرّر وانسحابها من المفاوضات التي انتظمت في الأيام القليلة الماضية، بعد الاتفاق على 90% من القضايا الخلافية بحسب ما أعلن السودان، غير أن اقتراب موعد التخزين، والذي يشكل ضغطاً على البلدين، استدعى تنسيقاً بين البلدين، وتغيراً نسبياً في موقف السودان تترجمه تصريحات رسمية، منها تصريحات وزارتي الري والخارجية. ما يعود، في جانب منه، إلى إعادة نظر المفاوض المصري إلى العلاقات السودانية المصرية، وما ترتب على ذلك من تكثيف وتعدد جبهات الحوار والاتصال التي لم تقتصر على المكون العسكري في مجلس السيادة، والذي كانت تراهن عليه القاهرة من دون اتصالات كافية مع حكومة حمدوك التي تمثل بعض قوى ثورةٍ لم تتفاعل معها القاهرة التي اتهمتها تيارات سودانية بأنها تدعم المكون العسكري في مواجهة قوى الحراك ومطالبه.
كان تغير مهم في المواقف يمكن أن يأخذ مجراه من قبل، لولا ما بدا من موقف القاهرة المتحفظ على ثورة السودان، والمراهنة، في بدايتها، على بقاء الرئيس عمر البشير الذي اتخذ القاهرة محطة لمهاجمة الربيع العربي إجمالاً، والثورة ضد نظامه خصوصاً. واستمر النهج ذو الرؤية الواحدة، والمراهنة المنفردة على المجلس العسكري بعد إسقاط البشير، ما تبدّى في استضافة القاهرة رئيس المجلس الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه حميدتي، وسط أجواء المواجهة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الرافض حينها تقاسم السلطة مع قوى الثورة، وهو ما وضع القاهرة في صف المجلس العسكري، في مواجهة مطلب الحكم المدني، بينما ظهرت إثيوبيا في موقف داعم للحوار بين الطرفين في محطات عدة.
من المهم إدراك أن هناك واقعاً جديداً في السودان، اختاره شعب هذا البلد، وهو حال ديمقراطي النزعة، متعدّد الجهات والمؤسسات، وهو ما يستدعي الاتصالات مع أطرافه من القوى والأحزاب السياسية، فضلاً عن الحكومة والمكون العسكري. ويظل الموقف من ثورة السودان فاعلاً في شأن سد النهضة وغيره من الملفات، على الرغم من أن دوائر سودانية تروّج أن أديس أبابا أقرب إلى الثورة من القاهرة. ويستطيع المتابع معرفة هذا التوجه، وإن كان محدوداً، ويعتمد على اجتزاء تاريخي لتحليل علاقات الخرطوم والقاهرة، فضلاً عن توظيف مفاهيم وملامح ثقافية، وانتماءات قبلية لدعم علاقات السودان بإثيوبيا في مواجهة القاهرة. ومن ذلك أنك تجد شباباً سودانيين يرفعون على ساحات التواصل الاجتماعي شعار "إثيوبيا يا أخت بلادي"، عدا عن دعوات إلى شراء سندات دعماً لمشروع سد النهضة. وتصدر تلك الرؤى من قطع الصلة بالمحيط العربي، ورفع شعار السودان أولاً، انطلاقاً من موقفٍ بعدم جدوى العلاقات مع المحيط العربي عموماً، ومصر خصوصاً، وإن كان هناك تفهم لبعض دوافع هذه الشعارات، إلا أن ذلك لا يلغي آثارها السلبية مستقبلاً، أو أنها ذات طابع انعزالي مغاير لرؤية سودان الثورة الساعية إلى إعادة صياغة علاقتها مع محيطها العربي والأفريقي وعودة العلاقات الدولية، بما يخدم قضايا التغيير والتنمية، كما أن قضية السد ليست مشكلة مصر وحدها، فالسودان متضرّر أيضاً، وإنْ بنسبةٍ أقل في ما يخص حصته المائية.
كما ساهمت المناوشات العدائية من مليشيات إثيوبيا ضد مناطق حدودية في السودان في إيصال
رسالة بأن أديس أبابا تمارس ضغوطاً غير مباشرة في ملف السد، وتحاول فرض إرادتها على السودان، وتمارس التعنّت في المفاوضات، وتحاول فرض إرادتها على دولتي المصب، واستمالة الصومال وجيبوتي لصالحها، على عكس رواياتٍ واتهاماتٍ تروّجها أفريقياً وعالمياً عن محاولات القاهرة فرض إرادتها على إثيوبيا والسودان.
التنسيق المصري السوداني ضرورة لصدّ مخاطر حقيقية على الدولتين، وهو ما دفع الاتحاد الأفريقي مساء الجمعة 26 يونيو/ حزيران الحالي، إلى التدخل وعقد قمة أفريقية مصغرة، كان أهم مخرجاتها تأجيل ملء سد النهضة إلى حين الوصول إلى قرار ملزم خلال أسبوعين. ولولا تنسيق المواقف بين مصر والسودان ما توجهت أثيوبيا إلى الاتحاد الأفريقي، وأبدت موقفاً مرناً قبل عقد جلسة مجلس الأمن غداً الاثنين.
وأخيراً، تستدعي الأزمة مراجعة مواقف القاهرة من الأطراف الداعمة لإثيوبيا في بناء السد وتمويله، والمشاركة في مشاريعه المستقبلية، على أن تكون القضية أحد مرتكزات علاقاتها الإقليمية والدولية، فالشعارات والأغاني وتكرار الدعاية المكثفة، والتصريحات عن العلاقات الاستراتيجية والتحالفات، إن لم تترجم في مواقف داعمة في قضيةٍ غايةٍ في الأهمية لن تفيد في أي قضية أخرى.
وتظل أزمة إدارة ملف التفاوض، بما فيه التعتيم على إخفاقات السنوات الماضية خوفاً من تأثر صورة السلطة، خطأ عطل خطواتٍ ضرورية، منها التنسيق المصري السوداني، واللجوء إلى الآليات الدولية، وحشد كل أشكال التضامن، كما أن من المفيد مراجعة القاهرة والخرطوم سياسة النفس الطويل الذي تزامن مع جولات التفاوض السابقة، وأفاد إثيوبيا في بناء السد الذي توشك على تشغيله. ويظل حاضراً أنه، بفضل التنسيق بين القاهرة والخرطوم وعملهما المشترك، تم تأجيل عملية ملء السد، وهذا لا يمنع أن سياسات إثيوبيا تنبئ بأنه، وإن تم حل الجانب المتعلق بالتخزين، عبر اتفاق ملزم، فإن فرص تجدّد الأزمة، خلال عملية تشغيل السد، واستمرار موازين القوى في المنطقة، ستبقى كما هي.