Skip to main content
الموت
صادق هدايت
لوحة للفنانة الأميركية أنابيل لي واشنطن (Getty)
يا لها من كلمةٍ مُخيفةٍ ومثيرةٍ للقلق! ينتابُ المرء إحساسٌ بالضعف والعجز لمجرَّد سماعها، إنَّها تمحو الابتسامة عن الشِّفاه، وتخطفُ السعادة من القلوب، وتجلبُ الكدَرَ والكآبة، وتسيِّرُ آلاف الأفكار المضطربة أمام العين. 

لا يُمكن الفصل بين الحياة والموت، فمن دون الحياة ليس ثمة وجود للموت، ومن دون الموت أيضاً لن يكون للحياة وجودٌ ظاهري. من أكبر نجمة في السماء وحتى أصغر ذرّة على الأرض، كلّ شيءٍ عاجلاً أم آجلاً سيموت.
الحجر والنبات والحيوان يجيئون تباعاً إلى العالم ماضين نحو العدم، ويتحولُون في زاوية من زوايا النسيان إلى حفنةٍ من غبار.

الأرض تتابع دورانها في الفضاء اللانهائي من دون اكتراث، الطبيعة تبدأ الحياة من جديد فوق بقاياهم، الشمسُ تظهر باعثةً النور، النسيم يهب، الأزهار تجعل الهواء يضوع بالأريج، الطيور تصدح بالغناء، كلّ الكائنات تُفعم بالطاقة والحماس. تبتسمُ السماء، تنمِّي الأرض.. والموتُ يحصدُ بمنجله العتيق بيدر الحياة.


الموت ينظر إلى وجود كلِّ الكائنات بعينٍ واحدةٍ، ويجعلُ لها مصيراً واحداً، فهو لا يعرف مقتدراً أو شحّاذاً، ولا سافلاً أو رفيعاً، وينوّم الإنسان والنبات والحيوان جنباً إلى جنبٍ في المغارة المُعتمة.

في المقبرة فقط يكفّ السّفاحون والجلادون عن ظلمهم، فيها لا يُعذّب البريء، ولا وجود لظالم أو مظلوم، الكبير والصغير غارقونَ في نوم لذيذ. يا له من نوم هادئ وعذب، إذْ لا يشاهدون وجه الفجر، ولا يسمعون صرخات الحياة وجلبَتها. إنّها أفضل ملاذ للآلام والأحزان والعذابات ومظالم الحياة. فيها تخمد نيران الرّغبات المتأججة، وتهدأ حروب الإنسان ونزاعاته ومجازره وصلفه، وبطشه، في صدر التراب البارد والمظلم، داخل القبر الضيّق الساكن.

لو لم يكن ثمة موت لتمناه الجميع، ولارتفعت إلى السماء صرخات يائسة تلعن الطبيعة. لو لم تكن الحياة زائلة لكانت شديدة الرعب والمرارة.
عندما تطفِئ تجارب الحياة القاسية مصابيح شبابنا السّاحرة، وعندما يجفّ نبع الرأفة ويغدو الظلام والبشاعة بلاء محيقاً، يكون الخلاص لديه. هو الذي يضع القامة المحنيّة، والوجه المليء بالتجاعيد، والجسد المريض في مهجع الأمان.



أيّها الموت! يا من تخفّف أحزان الحياة وهمومها، وتحمل عنها عبئها الثقيل، وتهدّئ بال البائس العاثر الحظّ، أنت ترياق للحزن واليأس، تجفّف العين المليئة بالدموع،
أنت مثل أم رؤوم تحتضن طفلها لتداعبه وتنومه بعد نهار عاصف، أنت لست الحياة المرة، الحياة المفترسة، حتى تجر البشر إلى التيه، وترمي بهم إلى الهاوية المريعة.

أنت البعيد عن الصفاقة واللؤم والغرور والصّلف والبخل، تستر، ضاحكاً، أعمال الإنسان البذيئة. من الذي لن يتذوّق خمرتك المسمومة؟

لقد جعل الإنسان وجهكَ مرعباً، وهو في فرار منك، إنه يخال الملاك النورانيّ شيطاناً ساخطاً! لمَ يخاف منك؟ لمَ يفتري ويتحايلُ عليك؟ أنتَ نور متألّق ولكنّهم يخالونك ظلاماً وعتمةً، أنتَ نشيد السعادة المبارك إلا أنهم ينوحون عند عتبتك، أنتَ لستَ رسول الحداد.

أنتَ دواءُ القلوب الذاوية، تفتحُ نافذة الأمل في وجه اليائسين، وتستضيف قافلة الحياة المتعبة وتحررها من الألم والتعب، أنتَ تستحق المديح، إنَّك تملك الحياة الخالدة.


(*) صادق هدايت قاص إيراني انتحر في باريس عام 1951م.
الترجمة عن الفارسية: ماهر جمو

المزيد في ثقافة