Skip to main content
الكل مستفيد في ليبيا وجوارها
أبو القاسم علي الربو
قالوا إذا أردت أن تعرف الفاعل فابحث عن المستفيد. ينطبق هذا على الوضع الليبي شديد التعقيد، نظراً لكثرة المستفيدين وتقاطع مصالحهم التي لا تزال تؤدّي إلى تحالفاتٍ مختلفة ومتغيرة، تبعاً لتغير هذه المصالح، فلا غرابة أن نجد حلفاء الأمس صاروا أعداء اليوم، والعكس صحيح. بالأمس كان ما يعرف باللواء التاسع (الكانيات) حليفا قويا لصلاح بادي الذي يمثل الجناح العسكري للإسلام السياسي في مصراتة، ونجمت عن هذا التحالف مهاجمة مطار طرابلس (ظل تحت سيطرة قوات حكومة الوفاق إلى تلك الفترة)، من خلال عملية عسكرية مشتركة، كانت تهدف، حسب تصريحاتهم، إلى فكّ العاصمة من المليشيات التي سيطرت على مناحي الحياة الاقتصادية داخلها، مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وشركات الاتصالات وشركة الاستثمارات وغيرها. وادّعى الناطق باسم هذا التحالف حينها أن الهجوم جاء بعدما عاثت هذه المليشيات فساداً، وتغولت داخل الحكومة، حتى أصبحت الدولة بكاملها تحت سلطة هؤلاء. واستطاع هذا التحالف السيطرة على مطار طرابلس، الأمر الذي أدّى بوزير الداخلية، باش آغا، إلى تكليف اللواء التاسع بحماية المطار والمناطق المجاورة له، على الرغم من انتقاداتٍ وجهت إليه في حينها، وانطلقت من حقيقة أن اللواء التاسع يضم العناصر الأمنية والعسكرية في النظام السابق (نوع آخر من التحالفات). 
لم يكن هذا التحالف الأول أو الأخير، فقبله كان التحالف الذي أوجدته حروب "فجر ليبيا" على الزنتان، وكان مهندسها فتحي باش آغا، مستخدماً صلاح بادي وسالم الزوفري من مصراتة، بالإضافة إلى قادة ميدانيين من الأمازيغ، ومناطق أخرى تدور في فلك الإسلام السياسي في تلك الفترة، أهمها مدينتا الزاوية وغريان، وذلك بغطاء ديني من الشيخ الصادق الغرياني، ورموزٍ غيره أفتت بضرورة الانضمام إلى هذا التحالف، من أجل دخول الزنتان وتجريدها من الأسلحة، بحجة مساندتها أزلام النظام السابق. ووصل الأمر إلى إصدار صكوك الشهادة لكل من مات في هذه الحرب. وعلى الرغم من أن للزنتان تحالفات قديمة وارتباطات قبلية مع قبائل عربية عديدة، أهمها ورفلة والصيعان وورشفانة، إلا أنها لم تجد من يقف إلى جانبها في تلك الحرب، خوفاً أو طمعاً، سوى قبيلة الرجبان، الحليف القوي الذي ظل محافظاً على هذا التحالف. استخدمت الدبابات والصواريخ في ذلك الهجوم، ووصل الأمر إلى استخدام الطائرات في الهجوم على مطار الزنتان أكثر من مرّة، الأمر الذي أدّى إلى إسقاط طائرتين، لقي قائد الأولى حتفه، ووقع الثاني في الأسر، ولم يتم إطلاق سراحه سوى الأسبوع الماضي، ضمن تحالفاتٍ جديدة من نوع آخر، عرّابها اللواء أسامة جويلي الذي قاد الزنتان في حربها في "فجر ليبيا"، واستطاع الوقوف ضد الحرب التي شنتها تلك التحالفات باقتدار.
بقيت هذه التحالفات على حالها، إلى أن قرّر (اللواء المتقاعد) خليفة حفتر الهجوم على طرابلس في إبريل/ نيسان العام 2019، ليخلط الأوراق، ويفتح الباب لتحالفات جديدة، تميزت عن 
سابقتها بوجود قوى إقليمية ودولية، تحرّكها أطماع اقتصادية وأمنية، بل وعرقية أيضا. وأدّت هذه الحرب، فيما أدّت إليه، إلى طرح تساؤلات عدة عن مدى أحقية كل طرفٍ في الاصطفاف مع هذا أو ذاك. وهي أسباب منطقية وجوهرية، تقود كل واحدٍ من أطراف المعادلة المعقدة إلى تحقيق أهدافه، مبررةً بذلك الوسيلة أو المنهج الذي يتبعه، فمن اصطفّ تحت ما تسمى عملية الكرامة التي يقودها حفتر، يرى له حقا في ثروة بلاده، النفط، خصوصا وأن أغلب مصادره تقع في المنطقة الشرقية التي حرمت من إيراداته عمدا، وأن المليشيات في الغرب الليبي استحوذت على هذه الإيرادات، في سيطرتها على مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، محققة بذلك طبقة برجوازية جديدة، أشار إليها رئيس بعثة الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا، غسان سلامة، في تصريحه بأن مليونيرا يولد في ليبيا كل صباح. إضافة إلى احتكارهم السلطة من خلال انقلابهم على الانتخابات أكثر من مرة. بل ولم يعد للمنطقة الشرقية أي تمثيل في المجلس الرئاسي سوى بنائبين عن بنغازي، سرعان ما أُجبرا على الرحيل، وتركا كرسييهما شاغرين، بعد أن هيمن نواب المنطقة الغربية على المجلس، حسب تصريحاتهم. ومن يدافع على العاصمة طرابلس يرى له الحق أيضاً في الدفاع عن مدينته ضد المليشيات التي قطعت أكثر من ألف كيلومتر بجيش جرّار بغرض تمكين (المشير) خليفة حفتر من الوصول إلى السلطة بأي ثمن، مستبقةً مؤتمر غدامس الجامع، والذي كان يعوّل عليه الليبيون كثيراً في إخراجهم من هذا النفق. ويعتقد كثيرون منهم أن عدم الدفاع عن العاصمة يعني الاستهانة بالتضحيات التي بُذلت من أجل التخلص من النظام الشمولي الديكتاتوري، والعودة إلى المربع الأول الذي يكون فيه الزعيم والقائد والمخلص هو الآمر الناهي، ولا يرى الشعب إلا ما يراه ويقرّره، هو وأولاده وقبيلته.
لم يقف الطرف المحسوب على النظام السابق على الحياد، ولم يعد يروق له موقف المتفرّج، بل أصبح يرى له حقا في أن يكون طرفاً مهماً في أي تسوية، وذلك لن يتأتى إلا باصطفافه مع من يقبل اقتسام الأرباح معه. وهذا الطرف تسرّه المآسي والآلام التي يعاني منها الليبيون، لأنهم يرون أن ذلك سيثبت صدق حكمهم على ثورة فبراير أنها مؤامرة خارجية، لن تأتي إلا بالدمار والموت والفقر، متناسين أن سبب كرههم هذه الثورة أنها أفقدتهم جاهاً وثروةً وحكماً ووجاهةً كانت تميزهم عن غيرهم، بل وكانت من الأسباب الرئيسية لقيام الثورة أصلا.
للأطراف الدولية والإقليمية الحق في تدخلها أيضا لصالح هذا الطرف أو ذاك، ليس حبا فيه أو تحقيقا لمشروعه، إنما من أجل مصلحتها التي لها كل الحق في تحقيقها. بشأن تركيا مثلا، قال الرئيس أردوغان إن هناك أكثر من مليون ليبي من أصول تركية تريد بلاده حمايتهم. وذكرت صحيفة ديلي صباح التركية أن المقاولين الأتراك امتلكوا مشاريع في ليبيا بأكثر من 28 مليار دولار. وهناك المنافع التي يمكن أن تجنيها تركيا من الاتفاقية التي وقعتها مع حكومة طرابلس في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والتي ستفتح أمامها فرصاً كبيرة وواعدة، خصوصا في مجال النفط والغاز.
ولدى مصر، الدولة الجارة المباشرة لليبيا، خصوصية تجعلها أحد أصحاب المصالح الرئيسيين. 
سياستها مدفوعة بالاهتمامات الأمنية والاعتبارات الاقتصادية، وكذا البعد التاريخي والاجتماعي، خصوصا وأن قبائل مصرية كثيرة ذات أصول ليبية نزحت منذ مئات السنين. علاوة على فوبيا الإسلام السياسي الذي يراه النظام الحاكم في مصر تهديدا مباشرا له، إذا ما تمكّن من السيطرة على ليبيا. ويمثل هذا الهاجس تحدّيا أمنيا كبيرا يتمثل في حدود مشتركة يصل طولها إلى 1150 كلم.
وبشأن الجارة تونس، فإن وصول حركة النهضة إلى الحكم فيها جعلها تدور داخل تروس الأحزاب الإسلامية، فهي بالتالي تعتبر نفسها، وتعتبرها تركيا، المنصة المتقدّمة القريبة جدا من المنطقة الغربية في ليبيا، والتي يمكن أن تستغل في أي وقت. وقد قال رئيس مجلس النواب التونسي زعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، الأسبوع الماضي، إن لبلاده الحق في الحصول على جزء من الكعكة الليبية، "ليبيا يتطلع إليها الجميع سوقا مستقبلية يستفيد منها الفلاح والسياحي والعامل والمقاول ورجل الأعمال، وأوْلى بتونس أن يكون لها نصيب الأسد في ذلك". وبالتالي، مصالح تونس تجعلها تدافع عن "حقها" في التدخل في الشأن الليبي.
ولدى الجزائر، الجار الآخر، مصالح في ليبيا تجعلها معنية بشأن هذا البلد، وإنْ بشكلٍ يختلف عن غيره من حيث علانيته. وقد صرّح الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أكثر من مرة، بأن الحل في ليبيا لا يمكن أن يكون من دون الجزائر وأن لدى الجزائر القدرة على حل الأزمة. ويحظى الملف الليبي باهتمام جزائري لا يقل عن اهتمام باقي الدول الإقليمية به. وقد كشف الرئيس أن بلاده كانت على وشك حل الأزمة في ليبيا، إلا أن أطرافا عطّلت ذلك. وعلى الرغم من أنه لم يسم هذه الأطراف، إلا أن الإشارة هي إلى مصر، خصوصا وأن العلاقات الجزائرية التركية تشهد ربيعا زاخرا بالزيارات المشتركة.
استنادا إلى كل ما سبق، لا تخفي هذه الأطراف الإقليمية ما تراه حقا لها في التدخل في ليبيا، بما يساعدها في تحقيق مصالحها الاستراتيجية، إلا أن أطرافا محلية غير معلنة تدفع بقوة في اتجاه استمرار الوضع الفوضوي المأساوي أطول فترة، فهناك أكثر من عشرة آلاف دبلوماسي ليبي في سفارات في العالم، ويتجاوز عددهم في بعض هذه السفارات عدد أفراد الجالية الليبية التي يمكن أن تستفيد من خدمات هذه السفارات، ناهيك عن وجود سفارات ومكاتب قنصلية وأمنية وتجارية في دول ليس لها أي علاقة بليبيا. وأغلب هؤلاء الدبلوماسيين من خارج وزارة الخارجية، وقد فُرضوا إما بسلطة المليشيات المسيطرة على وزارة الخارجية أو لشراء ذمم وولاءات، أو نتيجة محاصصات قبلية أو حزبية، وكثيرون منهم انتهت مدة عملهم القانونية، ولكن انشغال الدولة بالحروب والصراعات يجعلهم في مأمن من إرجاعهم إلى سابق أعمالهم، وبالتالي فإن استمرار هذا الوضع مكسب لهم، مادي مربح.
هناك أيضا مافيا المال العام التي تسيطر على الأمور في بنغازي وطرابلس، وتدير منظومة فسادٍ لا مثيل لها في أكثر الدول فسادا، وقد أدّت إلى تبخّر المليارات، من دون وجود أي مردود 
اقتصادي أو خدمي، بل شهدت كل القطاعات الخدمية تدنيّا غير مسبوق، وأصبح حلم المواطن الليبي قضاء يوم من دون انقطاع التيار الكهربائي. وأقصى أماني الموظف الحصول على مرتبٍ يكاد لا يكفيه لسد احتياجاته الرئيسية والضرورية. أما أمل المريض في دواء أو علاج أو سرير في مستشفى فضربٌ من الخيال، فلا يمكن لمنظومة الفساد هذه أن تدفع في اتجاه قيام الدولة، لأنهم بذلك سيفقدون المناخ المناسب لفسادهم. والوضع مثالي، فلا نظام قضائيا، ولا مراكز شرطة، ولا رقابة إدارية ولا ديوان محاسبة، بل ولا ضمير يمكن أن يحدّ من هذه التصرّفات التي تدر عليهم المليارات. ومن جهةٍ أخرى، هناك قادة مليشيات أصبحوا يمثلون دولةً داخل الدولة، وحكومة داخل الحكومة، ويملكون أسلحة لا تملكها الدولة، خفيفة ومضادّات طائرات ودبابات وغيرها. ويدير هؤلاء سجونا سرّية وعلنية، تعج بآلاف المعتقلين خارج نطاق القانون وسلطة القضاء. ولدى كثيرين منهم مجموعات وفصائل خاصة بالمداهمة والقبض والاعتقال، بل والتصفية لكل من من لا يروق لهم أو ينتقد تصرّفاتهم. يدرك هؤلاء أن قيام الدولة يعني انتهاء هذه المزايا والملايين، بل سيكون مكانهم الطبيعي وراء القضبان، ينتظرون محاكمةً عما فعلوه في حق الأبرياء. ولهذا لن يدّخرون جهدا من أجل استمرار الانقسام والحروب والصراعات التي تعني لهم استمرار هيمنتهم وابتزازهم الدولة التي أصبحت تتملقهم، وتكسب ودّهم ورضاهم، لأنهم يستطيعون قلب المعادلة في أي لحظة.
ولا يجتمع أعضاء البرلمان وأعضاء مجلس الدولة إلا إذا كانت الاجتماعات مخصصة بمزايا تُمنح لهم. يتنقلون بين شرم الشيخ وإسطنبول وتونس، وتتنقل عائلاتهم وتتبضع بين عواصم العالم، ويدرس أبناؤهم في جامعات أوروبا. لا يمكن لهؤلاء البقاء والحصول على كل هذه المرتبات والمزايا إذا قامت الدولة، وانتهت هذه الظروف. وبالتالي، هم يدفعون في هذا الاتجاه، وما انقسامهم بين بنغازي وطرابلس إلا دليل على ما يبيّتون للبلد والمواطن الليبي الذي حمّلهم أمانة تفننوا في خيانتها. وثمّة دور مدمر وداعم لكل أنواع الانقسام والتناحر لدكاكين منتشرة بين الأردن وإسطنبول ومصر ودبي، تحت مسميات إذاعات ولافتات وطنية، تدفع في هذا الاتجاه التي ترى أنه يضمن تدفق الملايين إلى حسابات المشرفين عليها.
ويظل المواطن الليبي البسيط يدفع الثمن، مشرّدا ومسجونا ومهجّرا ومغبونا يحلم بوطن، يعيش فيه في أمن وأمان، من دون أن يستوقفه مرتزق يفتشه، أو مجرم يخطفه ويبتزّه، أو سياسي يسرق قوته، أو عسكري يحلم بحكمه ولو كان على جثته.